رمضان بلا مآذن: عن توقيت الإفطار قبل النكبة
لم يكن للأذان قديماً هذا الحضورُ المسموعُ في الفضاء العامّ الذي بات عليه اليوم. فالناسُ قبل مُكبّرات الصوت، في أيّ مدينةٍ أو قريةٍ من بلادنا وغيرها، بالكاد كانوا قادرين على سماع أذان الفجر من بيوتهم. بينما كان يقتصرُ سماعُ أذان الظهر أو العصر على المُصلين المتواجدين في الجامع، أو الجيران المحيطين به على الأكثر.
في مذكراته عن القدس العثمانيّة والانتدابيّة، يذكر واصف جوهرية احتجاج أبيه على استبدال مؤذن جامع المئذنة الحمراء المجاور لبيتهم في حارة السعدية، وهو المؤذن ذي الصوت الجميل، بمؤذنٍ لا بحّة لصوتِهِ ولا جمال. بل كان صوته، كما يقول واصف، مثل “والعياذ بالله…”، مما صار يُغضب والده يوميّاً عند صلاة الفجر.
ورغم أنَّ والد واصف جوهرية كان مسيحيّاً، إلا أنّه تجرأ وكتب وقتها عريضةً لِيُوقع أهالي حارة السعدية عليها، من أجل إعادة المؤذن السابق. من جُملة ما قيل لأبي واصف في حينه: “أن يأتِ على نفسه فجرَ كلِّ يومٍ، ويحتملَ صوت المؤذن”. مما يعني أنَّ الأذان لم يَكن يسمعهُ النّاسُ إلا فجراً، رغم رفعه في أوقاته الخمسة.1
ينادي المؤذن في أيامه العادية بأذانه على الناس خمس مرّات في اليوم للصلاة. بينما في رمضان، فإنّ للأذان هيّبة وجذوة أخرى نعرفها، لأنه نداءٌ يأذنُ للصائمين وغير الصائمين بالطعام. ولأنَّ صوت المؤذن كان بلا مُكَبِّر صوتٍ، ومساحةُ سماعِه كانت ضيّقة، جرى ابتكار تقنية “طلقة المدفع” لِتَأذن للصائمين بتناول الطعام والإفطا.
بين طلقة المدفع وطلقتي الخرطوش
كان المصريّون في القاهرة هم أول من تنبّه لطلقةِ مدفع رمضان، كإشارةٍ مُرافقةٍ للأذان والإذن بموعد الإفطار. تختلف الروايات في أصل حكاية “مدفع رمضان” بين روايةٍ تنسِبُ اكتشافه إلى أحد سلاطين المماليك الذي أراد تجريب مدفعٍ حربيٍّ وقت الغروب فأُطلقت منه قذيفة، ظنَّها الناس في القاهرة إيذاناً بموعد الإفطار، ثمّ جرت العادة على استخدامه.
بينما تقول روايةٌ أخرى إنّ والي مصر، محمد علي باشا، هو من حصل على مدفعٍ حربيٍّ ألمانيّ عام 1805، وأثناء تجريبِهِ له في رمضان وقت الغروب، تنبّه إلى طلقة المدفع كإشارةٍ تُحِلُّ الإفطار. فيما تفيدُ روايةٌ ثالثة، بأنّ مصادفة طلقة المدفع وقت الغروب في رمضان، تعود لعهد الخديوي إسماعيل، عند صيانته لأحد مدافعه، وأنّ ابنته فاطمة قد استحسنت صوته، وطلبت استمراره كتقليدٍ لإفطار رمضان.
أيّاً كانت الرواية الأدقّ، فإنّ فكرة مدفع رمضان جاءت من القاهرة، وعُمِّمت على مدن بلاد الشام والعراق منذ أواخر القرن التاسع عشر في ظلّ الدولة العثمانيّة. في فلسطين، ارتبطت “ضربة المدفع” في رمضان بمدن مثل: القدس، وغزّة، ويافا، وحيفا، وعكا، ونابلس، وطولكرم، وجنين. وظلّ يُعمل بتقليدِ مدفع رمضان في هذه المدن، إلى أن احتلتها “إسرائيل” ومنعت هذا التقليد، باستثناء بعض المدن مثل طولكرم، وكذلك القدس التي لا يزال مدفع رمضان يُضرب فيها إلى يوم المقدسيين هذا رغم قيود الاحتلال وسطوته عليه.
أما الخرطوش أو الجفت، فقد استُخدِم كذلك في بعض المدن الفلسطينيّة الصغيرة، مثل: صفد، وبيسان، وكذلك الناصرة. إذ ظلّ أهل تلك المدن، رغم وجود المساجد ورفع الأذان فيها، ينتظرون “طلقتي الخرطوش” ليؤذن لهم بالإفطار.
في صفد قبل نكبتها، كان أهلها عند الإفطار ينتظرون جفت “أبو عينتين” كما سمّوه. إذ يتطوع في رمضان من كلِّ عام، واحدٌ من صيّادي المدينة ليقف عند غروب الشمس على رأس جبل القلعة المُطلّ على كلِّ أحياء المدينة. “طَلقة عين” للناحية القِبلية، ثم “طلقة عين” أخرى للجهة الشماليّة، لِترفَع بعدهما مآذنُ جوامع أحياء المدينة الأذان، ليّهم الصفديون إلى موائدهم بمجرد أن يأذن الخرطوش لهم، دون انتظار مؤذن الحيّ.
وكذلك في بيسان، إذ ظلّت المدينة حتى رمضانها الأخير في البلاد قبل النكبة، تعتمد على “جفت دار التهتموني” الذي كانت طلقات نارِه مسموعةً مرّةً من على مئذنة الجامع، ومرةً من على سطح كنيسة “السيدة أنيسة”، تدوي مؤكدةً فكَ الإمساك وحلول موعد الإفطار. ولم يتردد الإنجليز في ظل استعمارهم للبلاد من التدخل لإسكات المدفع أو الخرطوش لِما يُسمّوه دواعيَ أمنيّة، خصوصاً أثناء الثورة الكبرى وبعدها. ومع ذلك، لم يُذكر أن عرفت مُدُنِ فلسطين غير هذا التقليد المُتصلِ بصوت البارود ليأذن للناس بالإفطار. هذا عن المُدن والبلدات الكبيرة في فلسطين، فماذا عن الريف وحيرته؟؟
حيرة الريف
كان التعّرف على وقت الإفطار في الريف قبل النكبة أكثر إشكاليةً من المدن، خاصّةً أنَّ قرىً فلسطينيّةً كثيرة لم تكن فيها لا مآذن ولا جوامع من أصله، وتحديداً لدى القرى والمضارب البدويّة. غير أنَّ قرى الفلاحين التي لم يكن فيها جامع وُجِدَ فيها المنزول، والذي جرت العادة على أن يصعد إلى سَطحهِ شيخُ القرية أو حتى أحد الردّادين على الزمّار في الأعراس، إذا ما كان صوته جهوراً، ليأذن بحلول الإفطار. أو كما تقول الحاجة شمسة ابنة قرية الطابغة المُهجّرة من ريف طبريا: “كنّا نفطر ع صوت أبو غازي”.
في قرى أخرى، منها الطنطورة الساحليّة والتي رغم وجود جامعٍ بمئذنةٍ فيها، لم يكن ممكناً سماعُ صوت أذان الخطيب فيها بسبب موج البحر والذي كان يعلو صوت لُجته وقت الغروب. لذلك كان أهالي القرية يكتفون بمشاهدة خطيب قريتهم واقفاً على سطح الجامع لِيُفطروا، دون الحاجة لسماع أذانه.
بينما في قرية “جَبّول”، الواقعة شمال مدينة بيسان، حيث لا جامع ولا منزول فيها، اتفق أبناؤها في كل رمضان على اختيار سطح أعلى منزلٍ في القرية، بحيث تٌمكن رؤيته من جميع بيوت القرية. وكان شيخُ البلد يأذن لأهالي القرية بالإفطار من على سطح ذلك البيت مُلوِّحاً بِحبل.
بينما لدى قرى فلّاحي الجليل، التي توطنها تاريخيّاً مسلمون ومسيحيّون، فلم تتوانى الكنائس عبر أجراسها من القيام بمهمة التوقيت والإذن بالإفطار. ففي قُرى مثل البِعنة في الشاغور، والرامة عند جبل حيدر وغيرها، كثيراً ما أفطر مسلموها الصائمون على شدِّ حبل جرس الكنيسة. خصوصاً وأن جيوب الخوارنة والرهبان، كانت أول ما تسلّلت إليها ساعةُ الجيب التقليديّة، لاعتمادهم عليها في مواقيت دقّ الجرس.
لكن بدو فلسطين، الذين سكنوا مضاربهم من بيوت الشعر، حيث لا مآذن ولا جوامع ولا حتى أماكن عبادة مخصّصة للصلاة، كانوا أكثر من حيّرهم وقتُ موعد الإفطار في رمضان. في الصيف اعتمد معظمُ بدو البلاد في مختلف مناطق تواجدهم إما على مدفع رمضان، إذا كانوا قريبين من إحدى المُدن التي يُستخدم فيها المدفع، أو على فراستهم في قراءة حركة النجوم وتحديد لحظةِ الغروب التي تُحِلُّ الإفطار.
غير أنَّ حيرة التعرف إلى حلول الإفطار كانت في الشتاء أكثرَ مما هي في الصيف، إذ لا شمسَ أساساً في السماء حتى يتمّ التعرفُ إلى غروبها، خصوصاً في الأيام الماطرة. كما كان صوتُ الريح والمطر يمنعُ إمكانية سماع صوت أي أذانٍ أو طلقة مدفعٍ منبعثةٍ من إحدى المدن المجاورة، مما كان يضطر البدو والريف عموماً إلى اعتماد وسائل ما أنزل الله بها من سلطان.
من دجاج القِن إلى طبل الشركس
لا يمكن في أيام الشتاء الاهتداء إلى مغيب الشمس، لأنها غير مرئية أساساً، فحدث غيرُ مرة، أن أفطر الناس قبل موعد الإفطار بساعةٍ أو أكثر. في قرية يَبنا المُهجّرة، الواقعة إلى الجنوب الغربيّ من مدينة الرملة، يُحدثنا الحاج محمد اليمني عن خطيب قريتهم الشيخ شاكر، يوم أن موّهتهُ كثافة الغيوم والضباب في يوم شاتٍ من رمضان، إلى حدٍّ بدا له كما لو أنَّ الليل قد حل. فرفع الأذان كما جرت عليه عادتُه من على سطح مقام “الشيخ وهبان” مُؤذِناً للناس بالإفطار، وأفطر أهالي يَبنا فعلاً.
بعد أقلّ من ساعة أفجت السماء، وطلّت الشمس من مغربها! قامت الدنيا ولم تقعد على الشيخ شاكر يومها كما يقول الحاج اليمني، واحتار أهالي القرية حينها، بين قضاء صوم ذلك اليوم بعد رمضان، أو القضاء على الشيخ شاكر والتخلص منه شخصيّاً.
أما المُلفت في موضوع توقيت الإفطار فكان لدى أهالي ريف طبريا، وتحديداً البدو منهم، في قرى مثل الدلهمية جنوبي طبريا، وخربة السودا (عرب المواسي) من شمالها، وناصر الدين أو عرب مرج كليب الذين توطنوا غرب المدينة. كانت تلك القرى غوريّة الموقع – نسبةً للغور – لأنها واقعة في منطقةٍ منخفضةٍ بين جبلين، فكانت تغيبُ الشمسُ عنهم قبل غروبها الفعليّ، مما كان يُصعِّب على صائميها معرفةَ مغيب الشمس حتى في الصيف، فما بالك شتاءً. لذلك اهتدوا إلى ظاهرة دخول الدجاج إلى قِنّه أو خُمِّه عند الغروب، كوسيلةٍ تأذن لهم بالإفطار.
“الجاج ولا مرة بخطي”، يقول الشيخ فارس الهنداوي من عرب الدلهمية، فالدجاج دقيق في توقيت خروجه من قِنّه فجراً، والرجوع إليه مع مغيب الشمس. فكان دخوله القِن عند الغروب، أذاناً منه بموعد الإفطار بالنسبة للدلاهمة وأهالي ناصر الدين.
يقول الحاج أحمد شهاب ابن عرب المواسي إنَّ بدو مضاربهم كانوا إذا حلّ رمضان صيفاً يُحاولون الإنصاتَ لمدفع مدينة عكا لفكّ إمساكهم عليه. بينما في الشتاء، لم تكن لديهم طريقةٌ أفضل من مُراقبة دجاجهم السارح أثناء عودته عند الغروب، ليُحِلَّ لهم بدخوله القِن الإفطارَ بطريقةٍ موثوقةٍ أكثر من مآذن طبريا. كما اعتمدوا على صيّحة ديك الدجاج في السحور، إذ للديك صيحة أولى ليلاً وأخرى ثانية، وإذا ما صاح الثالثة حلّ السحور.
أما “طبل الشركس”، فتلك حكايةٌ متصلةٌ بعشائر عرب الصبيح البدويّة المُهجّرة التي توطّنَتْ غابةَ الصبيح شرق الناصرة، والتي كانت تمتد مضاربها من جبل الطور جنوباً وحتى قرية الشجرة المُهجّرة شمالاً. أما قرية كفر كما الشركسية، وهي قريةٌ باقيةٌ إلى يومنا هذا، فكانت تبعد عن عرب الصبيح إلى الشرق، على مسافةٍ لا تزيد عن كيلومترين.
كان الشركس بأصولهم القوقازيّة من أكثر الناس التزاماً بالشريعة الإسلاميّة وتعاليم الدين، إلى حدٍّ كان فيه معظمُ شيوخ كُتّاب منطقة الناصرة قبل النكبة وبعدها من شراكسة كفركما. وقد اعتمد أهالي الصبيح في موعد حلول إفطار رمضان على توقيت الشركس، وتحديداً على صوت طبلهم. إذ تعاقد بدو الصبيح مع الشركس على ضربِهِ بقوّةٍ لتنبيهِهم بحلول الإفطار. في الأيام، التي لم يكن يَضرب فيها الشركسُ طبلهم، كانت تغضب الصبيح كلّها، إذ اعتقد أبناؤها أنَّ الشركس تقصدوا ذلك! وقبل أن يحِلَّ السحور، يكون رجال الصبيح قد سطوا على نصف قطعان الشراكسة تأديباً لهم.
أما في مدينة طبريا، فما يزال أهلها يتذكرون طبل رمضان، أكبر طبلٍ مُنبّهٍ في كلّ فلسطين قبل النكبة على ذمة السيد فوزي الحاج خليل. كان ضارِبُهُ في وقتي السحور والإفطار هو أحمد حِمّو الذي اعتمد عليه سكانُ طبريا والقرى المحيطة بالمدينة. إذ كان لطبل حِمّو صوتٌ رجوج، تهتزُّ منه بحرةُ طبريا وبيوتها، وتسمعه كلُّ القرى المحيطة بالبحرة.
كما لم يذكر أهالي عرب الشمالنة من قضاء صفد أن أفطروا مرّةً على صوت الأذان طوال إقامتهم في قريتهم قبل النكبة، لا في الشتاء، ولا حتى في الصيف. “على البرميل” كما ظلّ يتذكر أهلها، إذ يتناوب كلُّ يومٍ شخصٌ متطوعٌ من رجال قريتهم ليصعد إلى أحد البيوت المبنية من الحجر، وعند حلول الإفطار يظلّ يضرب على البرميل إلى أن يهبط الظلام. أما عن كيف كان يهتدي ضارب البرميل إلى حلول وقت الإفطار، فالله وحدَه يعلم.
على الظِل وبنات نعش
في ساحل فلسطين على المتوسط، تعوّد سكان ريفُه الساحليون الاهتداء لموعد الإفطار في الصيف، من خلال مراقبة هبوط الشمس، أي مغيبها، وتحميلها مدة زمن شُرب سيجارة ليحلّ الإفطار، أو كما تعود أهالي إجليل من قضاء يافا القول: “حتى تغطس الشمس بالبحر”.
بينما في الشتاء، ولأن شتاء الساحل قاتمٌ ومُعتمٌ حتى نهاراً، كان بدو عرب الصقرير الذين توطّنوا حافة البحر بين عسقلان وغزّة، يعتمدون في إفطارهم على “ظلِّ نور القنديل”! تقول الحاجة خاتمة القرم بأنّ والدها كان حين تقترب ساعة الإفطار يُشعل نور القنديل معلّقاً إياه على عمود بيت الشعر، وفي اللحظة التي يصبح فيها والدها قادراً على رؤية ظلّهِ الذي يعكسه نور القنديل على الأرص، يحلُ الإفطار.
يُذكِّرنا الاهتداء بالقناديل بعرب الوهيبي الذين جاورت خيامُهم مدينة طبريا. لم يعتمد الوهيبيون على آذان الجوامع، إذ لم يكن مسموعاً في مضاربهم، إنما اعتمدوا على الأنوار التي كانت تنبعث من المآذن نفسها، خاصّةً مئذنة جامع الزيادنة (الجامع الكبير) في طبريا، والتي جعلت حجارتُها السمراء وهجَ النور فيها مرئياً من على مسافات. كان الوهيبيون يراقبون عند الغروب المئذنة إلى أن تُشعل أنوارها فيحلُّ إفطارهم.
أما “بنات نعش”، فتلك حكاية أهالي غور فلسطين مع نجوم سماء غورهم والتي كانوا يعتمدون على ظهورها باعتباره بديلاً عن الأذان. كان أهالي خيام الوليد من الغور الأعلى في الحولة ممن اقتدوا بواحدةٍ من نجوم “بنات نعش”، التي كانت على ما يتذكر السيد محمد عيسى تظهر من جهة الغرب مع مغيب الشمس، بحجمٍ يفوق حجم النجوم من حولها، كما كانت لها لمعة مُشعّة تمايزها من بين نجوم السماء، ليفك أهل الخيام بمجرد ظهورها إمساكهم.
لدى أهالي قرية “الحمرا” شمالي مدينة بيسان أيضاً تقليدٌ يؤقِّت لموعد الإفطار بالنجم، تحديداً “نجمة باب الشرق” التي كانت تطل في سمائهم مع هبوط الشمس ومغيبها لتأذن لهم بالأفطار. غير أن النجمة الأكثر حضوراً في رزنامة أهالي الغور الاجتماعيّة هي “نجمة الصُبح”، إلا أنها كانت تؤقِتُ لموعد السحور والإمساك وليس الإفطار. وأحياناً كان أهالي غور بيسان يستخدمون تعبير “مياذين” وتعني النجوم، ففي قرية “دنة”، كان يهزُّ الرجل عند السحور كتف زوجته ليوقظها من نومها قائلاً: “قومي، المياذين صارت فوق بيت البقر”.
ساعة الجيب ومؤذنو الجيب
قبيل النكبة كانت ساعة الجيب قد وصلت إلى كثيرٍ من المدن والقرى الفلسطينيّة، غير أنها كانت تقتصر على جيوب قِلّة من الناس خاصة في القرى. فأهالي قرية “فرونة” إلى الجنوب الشرقيّ من بيسان، ظلوا إلى ما بعد النكبة يتذكرون “أبو ساعة” ابن قريتهم، الذي كان الوحيد من بينهم يملك ساعة جيب، وكانوا يلجأون إليها ليهتدوا لموعد الإفطار. إذ تعوّدوا إرسال أولادهم إلى بيته منذ ما بعد العصر لسؤاله عن الوقت، إلى حدٍّ أخرجوا فيه الرجل عن دينه! مما اضطره في الأخير إلى اعتماد ضرب المهباش (جرن القهوة)، كإشارة تأذن على ذمة ساعة جيبه لأهالي القرية بالإفطار.
تطول حكايا الناس في ريف فلسطين عن خطباء ومؤذني رمضان الذين كان يستعين بهم أهالي بعض القرى والمضارب البدويّة قبل النكبة، وتحديداً تلك التي لا جوامع ولا خطباء يرفعون الأذان فيها. مما أوجد تقليداً أن تستجير أو تستأجرُ بعض القرى، خصوصاً المضارب البدويّة، بشيخٍ أو خطيبٍ مُؤَقت يؤقِت للصلاة وينظِّمُ شؤون رمضان في السحور ورفع أذان الإفطار في القرية، مقابل التكفل بمبيته وإطعامه وأجرٍ يتلقاه أول يوم عيد الفطر.
ولأن من هؤلاء “الشيوخ أو الخطباء”، المدعوين للقرى ومضارب العشائر، لا أهلية دينيّة لبعضهم، ولا كان من يمكنه فحص أهليتهم، خصوصاً البدو الأقل تديّناً ومعرفة بأمور الدين، مقارنةً بالفلاحين وأهالي المدن قبل النكبة. لذا، حدث ولا حرج، عن مواقف اضطر فيها الناس الإفطار قبل مغيب الشمس، أو تناول السحور بعد موعد الإمساك، فلا ليلة قدر ولا ليال جبر، والجابر الله. مما كان يضطر الأهالي إلى طرد الشيخ أو ضربه أحياناً. هذا غير حكايا هلال العيد وحلوله، وكما كان يقول بدو وغوارنة الحولة: “ياما عيّدنا وصفد بعدها صايمة”.
بالكاد نختلف اليوم في الدول العربيّة والإسلاميّة على رؤية هلال العيد وحلوله مما يعطي هذا الخلاف أحياناً رونقاً وهيّبة للعيد. بينما الناس قديماً اختلفوا واحتاروا في كلِّ يومٍ من رمضان، وخصوصاً فيما يتعلقُ بفك الإمساك وموعد الإفطار. كان هذا إلى أن حلّت الكهرباء، لِيَحِلَّ مُكّبِر الصوت محل سؤال حلول الإفطار. أما عن أثر انتشار ساعة اليد في الأرياف… فتلك حكاية تطول.
المصدر : متراس