نقلت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، تفاصيل رواها الأسير يعقوب القادري في رسالة له، عن عملية “نفق الحرية” التي تحرر خلالها مع خمسة من رفاقه الأسرى، من سجن “جلبوع”، في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، قبل أن يعيد الاحتلال اعتقالهم بعد أيام من المطاردة.
وكشف القادري في رسالة كتبها في ذكرى اعتقاله من قبل الاحتلال، قبل 19 عاماً، أن الأسرى أطلقوا على عملية التحرر من سجن “جلبوع”، اسم “الطريق إلى القدس”، وقال: “أحببت أن أتكلم عن جزء بسيط مما حصل معنا وتحديداً عند خروجنا من عين النفق، وبدء مشوار الحرية الذي استمر لمدة 5 أيام جبت به أرض الشمال عرضاً وطولاً، وكم كانت هذه الرحلة محفورة في ذاكرتي وأحببت اليوم أن أنقلها لكم ببعض التفاصيل التي مازلت أتذكرها”.
وأضاف: “ما إن خرجت من عين النفق بعد خروج المجاهدين مناضل نفيعات ومحمد العارضة وكنت أنا الثالث وزكريا الرابع وأيهم الخامس ومحمود السادس، دهشت وصدمت عندما شاهدت نفسي أقف خارج السجن بلا قيود ودون أن أسمع أصوات غليظة تنادي ” عدد..عدد” والأبراج من خلفي خالية من السجانين ومن كاميراتهم ومن كلابهم البوليسية ومن تفتيشاتهم الليلية والنهارية”.
وعن لحظة الحرية يقول يعقوب: “كنت في حالة ما بين المستيقظ والنائم وقلت في نفسي:” هل أنا حر؟ أم أنني احلم؟ لا يا يعقوب” أسأل وأجاوب نفسي: “لا يا يعقوب أنت حر بالحقيقة”، تارة أبكي وتارة أضحك وتارة أسجد وتارة أشكر الله على هذه المكرمة، أعطاني محمد العارضة قنينة ماء وشربت منها القليل وبدأت بإزالة الاكياس البلاستيكية الموجودة على رأسي وقدماي وأنا أنظر إلى السماء دون أسلاك أو سقف، أشاهد النجوم مباشرة وإذا بزكريا الزبيدي يضع نفسه بجانبي ويطلب مني قنينة الماء فأعطيته إياها وهو كان في قمة سعادته، وبدأ باقي الشباب بالخروج حتى آخرهم”.
ويتابع: “على الفور توجهنا لقطع شارع بيسان الملتصق بسجني “جلبوع” و”شطة” ودخلنا إلى قطعة أرض مزروعة بالقطن وهي بمسافة عشرات الكيلومترات قطعناها ركضاً، نضحك، نتسامر ونقول لقد فعلناها أخيراً، ثم ما أردناه بعد عام كامل ليس بفضلنا بل هو بفضل الله عز وجل، ثم واصلنا المسير حتى وصلنا الى بيارة مزروعة بفاكهة “البوملي” تبعد حوالي 15 كيلو عن السجن، وهناك قمنا بتغيير ملابسنا وتناولنا أول طعام خارجي وهو حبات الفاكهة، وأعطيت زكريا وأيهم قداحة كانت معي فقاموا بإشعال سجائرهم لأول مرة في الهواء الطلق”.
وبعد وصولهم إلى قرية الناعورة، يقول يعقوب: “استرحنا قليلاً في مسجد القرية وقد حان أذان الفجر فصلينا في أحد أروقته، تناولنا الماء البارد وغسلنا ملابسنا ومن هناك تفرقنا كل اثنين مع بعضهما، فرافقت محمود العارضة حسب اتفاق سابق”، ويضيف: “خرجنا أنا ومحمود الى التلال والجبال القريبة من الناعورة ونحن متعبون لشدة الساعات التي قطعناها ولكننا صعدنا إلى هذا الجبل وسرنا عدة كيلومترات، وأثناء سيرنا دخلنا إلى أحد الأحراش حيث تواجدت به مزرعة أبقار كبيرة”.
ويروي يعقوب موقفاً طريفاً حدث معهم خلال مشيهم في شمال فلسطين المحتلة: “المضحك أن محمود العارضة طرح السلام على تلك الأبقار وقال ” السلام عليك أيتها الأبقار، نحن أصدقاء أنا ويعقوب ولسنا أعداء، لا تحاولوا إيذائنا ولن نؤذيكن أبداً فأمنت أنا على حديثه وضحكت وقلت لهن :”صدقن ما يقول فنحن أصدقاء ولسنا أعداء ” فبدأت الابقار بفسح الطريق لنا”.
ويكشف أنهم اختاروا المكوث قرب معسكر لجيش الاحتلال الإسرائيلي، لأن “الاحتلال لن يصدق بأننا نجرؤ على الاقتراب من معسكراتهم”، كما يروي يعقوب، ويضيف: “بالفعل دخلنا تحت إحدى الأشجار الكبيرة القريبة من المعسكر، وبالقرب منها جدار ترابي حوالي 3 أمتار فوضعنا كمية كبيرة من القش الناشف وبعض الأغصان الناشفة، على شكل مغارة تحت الشجرة، ووضعنا حقائبنا تحت رؤوسنا وبدأنا نتحدث عما جرى معنا حتى هذه اللحظة”.
وأردف قائلاً: “كنا قد اتفقنا أنا ومحمود هو يتابع الأخبار باللغة العبرية وينقل لي ما يحصل وأنا أتابع الأخبار باللغة العربية وأنقل له ما أسمع، لأن كل واحد منا كان له جهاز ترانستور أو راديو صغير في حقيبته، وهذا ما جرى وكنا سعيدين جداً ونحن نسمع كافة المحطات تتناقل هذا الحدث الكبير بكل اللغات، والاحتلال يبحث عنا في كل مكان دون جدوى”.
ويكمل يعقوب: “بقينا طيلة النهار حتى الليل وعندما دقت الساعة السابعة مساءً، حزمنا أغراضنا وأمتعتنا وقررنا المسير، سرنا ليلة كاملة حتى وصلنا إلى قرية سولم، مررنا بالقرب منها شربنا الماء وهناك أكلنا الصبر لأول مرة وواصلنا المسير دون أن ندخل إليها حتى مررنا بمدينة العفولة الصهيونية المقامة على أراضينا ومن الجراءة لدينا أننا دخلنا إلى الحديقة الخلفية لأحد المنازل دون علم أهله وشربنا الماء وتناولنا بعض من حبات الليمون والرمان المتواجدة في حديقتهم الخلفية”.
وبعد الراحة استكمل يعقوب ومحمود مسيرهما، كما يروي، إلى جبل مجاور وكانت الساعة الثانية عشرة ليلاً، وقرر المبيت قرب مستوطنة “العفولة” على بعد عشرات الأمتار من منازلها، ويضيف: “نمنا هذه الليلة هناك، وفي الصباح قررنا البقاء حتى المساء فكنا نصلي تارة جماعة وتارة فرادى، وعندما خرج الضوء صباحاً شاهدت شجرة فسألت محمود عنها فضحك وقال هذه شجرة الزعرور الفلسطينية، وأكلنا منها حتى شبعنا وكانت بطعم لذيذ جداً، وكان بالقرب منها أيضاً شجرة السماق الفلسطيني، أكلت القليل حتى أتذوق الطعم فقط”.
ويتابع: “حطت رحالنا قرب من قرية اكسال”، يقول محمود، وعلى مدخلها حصل جدال بينه وبين محمود حول “هل هي قرية عربية أم إسرائيلية؟”، وعن الموقف يروي: كان ترجيحي أنها قرية يهودية لأنني شاهدت على مدخلها عمارة كبيرة جداً ولم يكن بعلمي أنني مكثت قرابة 18 عاماً بالسجن وأن الحياة تغيرت تغيراً كاملاً، نمنا هذه الليلة قرب من قرية اكسال وتفاجئنا عند الساعة الرابعة والنصف بأن عدة مساجد تصدح بالأذان فضحك محمود وقال لي ” ألم أقل لك أنها قرية عربية ؟” فقلت له : يا أخي هذا ما حصل”.
وعن موقف آخر حصل مع يعقوب ومحمود يدل على الحرمان الذي عانياه في السجون، يقول: “في الصباح قام محمود لقضاء حاجته وإذا به يضحك وينادي علي: يا يعقوب.. يا يعقوب .. تعال وانظر، وإذا بعش حمام بري وبه بيضة فقال هذا حمامنا الفلسطيني الأصلي، تناولنا البيضة وقبَلناها وأعدناها إلى مكانها وعدنا إلى المخبأ حتى الساعة الثامنة مساء”.
ويقول: “بدأنا المسير ليلاً باتجاه القرية وما إن وصلنا أطرافها، وإذا بكميات كبيرة من الصبر مزروعة على أطراف أحد شوارعها الفرعية، أكلت عدة حبات ما بين الـ 5-6 أكواز من الصبر ومحمود على ما أذكر تناول حوالي 12 كوزاً وقال صدقني لم أشبع لكن لا أريد الاكثار فضحكت بأعلى صوتي : أنت أكلت 12 كوزاً من الصبر ولم تشبع فماذا لو أكلت أكثر؟”.
ويروي أنهما بدّلا ملابسهما ولبسا “شورتات” قصيرة وقبعات على الرأس، قبل الدخول إلى القرية، ووضعا حقائبهما تحت إحدى أشجار الزيتون: “هناك طلبنا الماء من أحد المارة، فناولنا عدة زجاجات صغيرة من الماء المعدنية وواصلنا الدخول الى القرية، وأثناء سيرنا شاهدت صبياً صغيراً يبلغ 5-6 أعوام يسير مع أمه وعدة أطفال آخرين أكبر منه فناديت هذا الطفل حملته وقبلته عدة مرات، وكأنني أحمل طائر الطنان الصغير الجميل وسألته ما اسمك؟ وسألته هل تعرفني؟ فقال : لا قلت له أنا ورفيقي الان تبحث عنا كل الكرة الأرضية، فتبسم الطفل دون أن يفهم المغزى والمعنى من قولي وعاد إلى أمه فسلمت على أمه من بعيد”.
وأردف قائلاً: “واصلت طريقي أنا ومحمود وخرجنا من القرية، وأثناء خروجنا كان هناك عرس بالقرية وكان يحييه الزجال الفلسطيني المعروف موسى الحافظ وأنا من المعجبين به وبزجله الشعبي، فطلبت من محمود التوقف بالقرب من القاعة التي كانت قريبة من الأحراش التي نمر به، حيث استمعت لمدة ساعة لهذا الزجل الذي أطربني وأسعدني”.
وعن الطريق إلى الناصرة، يروي يعقوب: “مررنا قرب مزرعة وشاهدنا بعض أشجار التين والعنب وأكلنا منها وواصلنا الطريق، ودخلنا إلى مزرعة أخرى، فوجدنا فيها الرمان قد وضع رحاله وكأنه ينتظرنا من أجل أن نأكله، أكلنا ما شاء الله أن نأكل وحملنا بعض الحبات بحقائبنا وواصلنا المسير حيث قطعنا الشارع الرئيسي وانتقلنا باتجاه المدينة”.
ويتابع: “قبل الوصول إلى تخومها دخلنا إلى إحدى بيارات الحمضيات، فأكلنا منها وبدأنا بصعود جبال الناصرة، نمنا بالقرب من حي الفاخورة دون أن نعلم، وكانت ليلة جمعة وفي النهار سمعنا خطبة الشيخ بالكامل وصلينا بالمكان الذي تخفينا فيه معهم الجمعة، وبقينا حتى حوالي الساعة السابعة مساءاً، واصلنا المسير حيث التقينا ببعض الشباب وتحدثنا معهم عن بعد وطلبنا منهم أن يرشدونا الى جبل القفزة ففعلوا ذلك”.
ويروي: “واصلنا المسير حتى جبل القفزة محاولين العثور على بعض العمال الفلسطينيين لمساعدتنا وإرشادنا على الطريق أو إيصالنا لمدينة جنين فلم نجد أحد”، يروي يعقوب، وقال: “عدنا أدراجنا إلى مدينة الناصرة وأثناء سيرنا على الأقدام قرب مدخل المدينة، تفاجأنا بسيارة شرطة صهيونية وفيها شرطيين عربيين، قفزوا من السيارة ووجهوا مسدساتهم على رؤوسنا وطلبوا منا إلقاء الحقائب وهنا انتهى المشوار في رحلة ذكرت لكم جزءاً من تفاصيلها ولم أذكر الكثير بعد خلال الخمسة أيام”.
وختم رسالته: “تفاصيل أخرى كثيرة جميلة انسانية ومشوقة لو سمعتوها لذرفتم الدموع، بعضها يمكن أن تكون طبيعية وروتينية في حياتكم، ولكنها عظيمة بالنسبة لإنسان حُرم من كل هذا ولم يعرف عنه شيء منذ أكثر من 19 عاماً… أنا أحبكم جميعاً فأنتم في سويداء القلب وفي حدقات العيون واللقاء قريب إن شاء الله على أرض جنين وقريتي بير الباشا بإذن الله تعالى”.