في ذاكرة حرّاس المسجد الأقصى المبارك، لا تمر ذكرى هبّة البوابات الإلكترونية التي اندلعت صيف 2017 مرور الكرام، إذ حفر هؤلاء عميقاً في ذاكرتهم تفاصيل معركة أرغمت الاحتلال على الرضوخ لمطالب المعتصمين على أبواب أولى القبلتين.
في تلك الهبّة، انقسم الحراس إلى قسمين: الأول مكث داخل المسجد على مدار 14 يوما ورفض الخروج منه، والثاني اعتصم على الأبواب مع آلاف المرابطين، ورفض الدخول إلى مكان عمله عبر البوابّات الإلكترونية التي نصبتها شرطة الاحتلال الإسرائيلي أمام أبواب الأقصى التاريخية، لإرغام المصلين على الدخول عبرها في محاولة لفرض واقع جديد.
تعود شرارة هذه الهبّة الشعبية ليوم الجمعة 14 يوليو 2017، عندما أقدم 3 شبان من مدينة أم الفحم، في الداخل الفلسطيني، على إطلاق النار على قوة للشرطة الإسرائيلية متمركزة عند باب حطّة (أحد أبواب المسجد الأقصى) في السابعة والربع صباحاً تقريباً.
ثم دخل ثلاثتهم إلى باحات الأقصى، حيث طاردتهم قوات من الشرطة الخاصة واشتبكت معهم حتى استشهدوا في صحن قبة الصخرة المشرفة، وأسفرت العملية عن مقتل شرطيين إسرائيليين.
كان حارس المسجد الأقصى محمد سنجلاوي على رأس عمله في ذلك اليوم على سطح مصلى باب الرحمة، وسمع صوت إطلاق نار قريب، أدرك أنه داخل الباحات فهرول راكضاً باتجاهه وشاهد القوات الخاصة أثناء إطلاقها النار على الشبان، ولم يُسمح له بالاقتراب.
وعلى إثر ذلك، لجأت الشرطة والقوات الخاصة إلى اعتقال 50 موظفاً من الأوقاف الإسلامية، كانوا على رأس عملهم بمرافق المسجد الأقصى، وأخرجتهم بالقوة من باب المغاربة بعد الاعتداء عليهم، ومن هناك نُقلوا إلى مركز تحقيق المسكوبية.
عن تلك الساعات قال سنجلاوي لـ”الجزيرة نت” “تم التحقيق معنا حول هوية الشبان الثلاثة، وعرضوا علينا صورهم وسألونا إذا كنا نعرفهم ثم صادروا هواتفنا النقّالة وأفرجوا عنا في المساء”.
أيام استثنائية
خلا الأقصى من كافة موظفي الأوقاف على مدار يومين، عاث الاحتلال خلالهما فساداً فيه، وبعدها قرر مشايخ الأقصى تنظيم جولة تفقدية في أنحائه ورافقهم فيها 12 حارساً، كان محمد سنجلاوي من بينهم، وبعد انتهاء الجولة، قرر الحراس البقاء داخل أسوار المسجد الأقصى وعدم المغادرة.
انطلقت في اليوم ذاته الهبّة ردًا على نصب بوابات إلكترونية حاولت شرطة الاحتلال إجبار المصلين على الدخول من خلالها، وهنا بدأت المسؤولية الملقاة على عاتق الحراس داخل المسجد تتعاظم.
عن ذكرياته في تلك الأيام قال سنجلاوي “كنا 12 حارسا، غادر 6 لأسباب عائلية، ومن بقي توزع على 144 دونما (مساحة المسجد الأقصى وباحاته ومصلياته) نحرسها ليلاً نهاراً ولا نحظى بسوى ساعتين من النوم يوميا، كنتُ الحارس الوحيد من الشعبة الصباحية، وبالتالي استلمت مهمة المناوبة عند باب المغاربة خلال ساعات اقتحام المستوطنين المتطرفين”.
لم يكن البعد عن زوجته وطفله حديث الولادة أمراً سهلاً، لكنه اختار البقاء في “مهوى قلبه” على مدار أسبوعين من الهبّة الشعبية، وحرص على توثيق كافة انتهاكات الاحتلال عبر تصويرها من فتحات صغيرة أسفل أبواب الأقصى وجوانبها.
“كنتُ على تواصل مع المشايخ على مدار الساعة، فأقول لهم ثبتوا جسراً حديدياً أمام هذا الباب ونصبوا كاميرات عند ذلك، وهكذا حتى اليوم الأخير الذي رأيت فيه بأم عيني إزالة الجسور الحديدية والبوابات من أمام باب القطانين”.
تكاتف المقدسيين
عصام نجيب حارس آخر عاش تفاصيل الهبّة مع المصلين على البوابات، وقال إن الاحتلال يبعده عن المسجد باستمرار قسراً، لكن بُعده عنه في تلك الأيام كان طوعًا لرفضه الدخول إلى مكان عمله عبر بوابات التفتيش الإلكترونية التي نصبتها الشرطة.
وأمام باب المجلس (أحد أبواب المسجد الأقصى)، رابط نجيب مع المقدسيين في الفترة الصباحية، وفي المساء كان ينتقل إلى منطقة باب الأسباط للاعتصام مع آلاف المصلين يومياً هناك.
أكثر ما لفت انتباهه خلال تلك الهبّة، التكاتف العميق بين المقدسيين، وتفاني الجميع في تقديم كل ما يملكون، فلم يبخل أحد في توفير الطعام والشراب وكافة احتياجات المعتصمين على مدار الساعة.
لحظات عصيّة على الوصف
صمت عصام نجيب للحظات عند سؤاله عن تفاصيل يوم النصر ودخول آلاف المصلين مهللين مكبرين إلى ساحات المسجد الأقصى، ثم قال “إن من لم يعش تلك اللحظات لم يعش أبدا”، خاصة أن الجدل حول فك الاعتصام والدخول، استمر منذ ساعات الصباح حتى العصر بعد إصرار المصلين على فتح باب حطة ليكون نقطة الدخول الرئيسية لهم.
وقف نجيب حينها أمام باب الأسباط، وعمّا شاهده قال “لا يمكنني وصف المشهد ولا المشاعر فهي عصية على ذلك؛ أفواج تدخل مكبرة مهللة.. منهم من يهرول ليكون أول من يصل صحن قبة الصخرة المشرفة.. ومنهم من خرّ ساجداً منتحباً.. وآخرون مرغوا أجسادهم بتراب المسجد، وغيرهم حملوا الأعلام ورفعوها عالياً.. مشاهد تقشعر لها الأبدان وتؤكد أن هذا المكان المقدس كان وما زال وسيبقى الخط الأحمر الذي لا يسمح المقدسيون لأحد بالعبث فيه”.
مشاهد النصر التي أغاظت الاحتلال ودفعته، كعادته بعد كل هبّة شعبية، للتضييق على المسجد والمصلين وموظفي الأوقاف، وقال نجيب إن الشرطة الإسرائيلية أصبحت تبعدهم عن المستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى يوميا، مسافة 25 مترًا، رغم أنه كان يسمح لهم قبل الهبّة بمراقبة المقتحمين من مسافة مترين.
ليس هذا فحسب، بل استُهدف الحراس وموظفو الأوقاف الإسلامية بالاعتقال والإبعاد بالجملة، ورغم عودته للمسجد الأقصى قبل أيام بعد إبعاد دام 6 أشهر، فإن هذا الحارس الشاب يرفض الوقوف مكتوف الأيدي أمام انتهاكات الشرطة والمستوطنين، ويصر على توثيقها، وهو ما أدى إلى إبعاده عن مكان عمله لمدة عام ونصفٍ حتى الآن.
نقلًا عن: الجزيرة