محمود العارضة بعيون أمه وشقيقته.. صفحات جميلة من الحياة هل تعود؟
ارتجف قلبها بشدة حينَما استشعرت بروحِ ابنها قربها، عندما وصلتها هذه الكلمات من خلفِ زنازين الموت: “حاولت المجيء لأعانقك يا أمي،قبل أن تغادري الدنيا، لكنّ الله قدر لنا غير ذلك، أنتِ في القلب والوجدان“.
فامرأةُ الثمانين عامًا أضعف من أنْ تُظهر شوقها الدفين، لكن تجاعيد الحسرةِ والألم على فراق ابنها كان مرسومًا على وجهها النحيل، فسبعُ سنواتٍ من البعد القسري لا تملك خلالهما إلا صورةً قديمةً وتمتماتُ صوتٍ يأتي عبر مكالمةٍ هاتفيةٍ بين حينٍ وآخر.
ولم تكن تلك اللحظة عاديّة في حياة أم محمد، والدة الأسير محمود العارضة، حينما حرر ابنها نفسه من سجن جلبوع في السادس من سبتمبر/ أيلول الجاري، وهي التي لا قُدرة لها على منع نفسها من التفكير به، فهي ترى نفسها رغم شدة مرضها لا تُشفى إلا بتأمل صورته، ومعانقتها،فلا ألمَ في الحياة يُشبه الآخر، ولا التحديق في الصور يُشفي غليل الاشتياق ويُطفئ لوعته.
رغم ما تعانيه “أم محمد” من أمراضٍ مُزمنة، فلا شيء يُبقيها على قيدِ الحياة، كشوقها لرؤية ابنها الرابع محمود وعناقه، إذ مضت سنواتٍ من عمرها والحنين يكبر في داخلها تجاهه، حتى حرر نفسه، ليجدد في روحها الأمل المخبوء.
لكن خارطة العمر تؤكد للأسير أنه في طرفٍ يُمكن الوصول إليه في أيِّ وقت، فعادت قوات الاحتلال اعتقاله في العاشر من سبتمبر بعدما تنسّم عبق الحرية لخمسةِ أيامٍ من العمر.
وفي السابع عشر من سبتمبر الجاري، نقل الأسير محمود العارضة مع محاميه رسالة ورقية لوالدته كتب فيها: “بعد التحية والسلام، حاولتالمجيء لأعانقك يا أمي، قبل أن تغادري الدنيا، لكنّ الله قدر لنا غير ذلك، أنت في القلب والوجدان، وأُبشرك أني أكلت التين من طول البلاد،والصبر والرمان، وأكلت الجوافة بعد حرمان 25 عامًا، وتنسمت الحرية، ورأينا أن الدنيا قد تغيرت، وصعدت جبال فلسطين لساعات طويلة،ومررنا بالسهول الواسعة“.
“تفاصيلٌ مُوجِعة“
بصوتٍ يرتجفُ وجعًا تقول والدة الأسير محمود العارضة “أم محمد“، “أوجعتني رسالة محمود المملوءة خلفها شوقٌ كبيرٌ لعناقي، وأوجعتني هديته “العسل” التي لم تصلني منها إلا رائحة جميلة حانية عانقتني في الصباح لا أعلم ما سرها، متيقنة أنها إشارة ربانية لتُربت على قلبها“.
وتُضيف لـ “وكالة سند للأنباء” بلهجةِ قضاء جنين، “قال أنه مشتاق لي، لكن هل يا ترى يعلم حجم شوقي له أيضًا، وكم أتمنى عناقه قبل أن يسرقني الموت منه.. يا ليتنا التقينا لأطعمته من صبر البلاد بيدي“.
وبصوتٍ فخور بصنيع فلذة كبدها تتابع “أم محمد“: “ابني رفع رأسي عاليًا، بل رفع رأس فلسطين كلها”، لافتةً إلى أنها كانت تُعامله منذ طفولته على أساس “الرجل المجاهد“، فصنعته رجلًا قويًا.
وبالكاد استطعنا لملمة الحروف من صوت “أم محمد” الذي خنقته الحشرجات، عند إجابتها على سؤالنا “مُنذ متى لم تزورين محمود؟” لتجيب “منذ 7 سنوات” ثم راحت في غمرة بكاء منعتها من استكمال الحوار.
وهذا “البعد شرس وقاسي” هكذا وصفت شقيقته الأصغر باسمة، والتي استكملت الحديث عن والدتها: “ففوق الحكم العالي بالسجن، يحرم الاحتلال منذ سنوات والدتي من زيارته لأسبابٍ يزعم أنها أمنية“.
وعن هدية العسل التي كان يُخبئها محمود لوالدته، حدثتنا عن تفاصيلها شقيقته باسمة، موضحة: “أن هذه الهدية قام بشرائها من “كنتين” السجن، وقرأ عليها القرآن كاملًا؛ بنية الشفاء لوالدتها، لكن القدر كان أسرع من وصول الهدية لها، واعتقلوه مجددًا“.
“جمر الشوق“
خصص الأسير محمود العارضة في رسالته الورقية عبر محاميه تحية خاصة مفعمة بالشوق لشقيقته هدى التي كان يرتدي ثوب ابنها الكبير محمود (9 سنوات).
بكلماتٍ من الحنين، تقول شقيقة الأسير محمود العارضة “هدى” لـ “وكالة سند للأنباء“، يقتلني الشوق إليه، وكانت تحيته التي وصلتني مث لالقشة التي أمسكت بها لتنقذني من جمر الشوق الذي أكل من عمرنا الكثير“.
وفي سؤالنا “لماذا خصص برسالته هدى عن غيرها“، بعد صمتٍ وتنهيدة ردت: “تربطني علاقة قوية بشقيقي محمود، وكنتُ أتمتع بالقرب منه، مؤكدةً أنهما يتشابهان في الفكر والعاطفة، والسجن الذي جمعهما خلف أسواره، لافتةً إلى أنها “أسيرة محررة“.
فمنذ 11 عامًا والفراق يحول بينها وبين شقيقها، تقول “هدى“، إن آخر مرة رأيت فيها شقيقي محمود في العامِ 2010، مُعربةً بحسرةٍ شديدةأنها كانت آخر زيارة لها لمحمود“.
وعن القميص الذي كان يرتديه محمود، تُحدثنا “هدى” عن تفاصيله: “بين حينٍ وآخر، كنتُ أتلقى من محمود اتصالات سريعة يُطمئنني عنه،وفي إحدى الاتصالات، طلب مني طلبًا “أن أحاول جلب قطعة من ملابس إبني محمود“، مشترطًا أن تكون رائحة ابنها عالقة في القطعة“.
وتستكمل:” نفذت طلب محمود، وقمت بتحضير قطعة ملابس، وأرسلتها مع عائلة فلسطينية قامت بزيارة ابنهم في سجون الاحتلال“.
في أثناءِ الحوار، وجّهتْ “وكالة سند للأنباء” لها سؤالًا عن شعور طفلها وخاله يرتدي من ملابسه، فقاطع الحوار ابنها “محمود” الصغيرمُكمِلًا عن أمه بنبرته البريئة: “أنا فخور كتير بخالو، رفع راسي قدام كل أصحابي وهو لابس بلوزتي“.
“طفولة رُجولية“
وتسرد “هدى” حكايا طفولته البريئة، قائلةً: “كان الطفل الذكي، والمثقف الذي كان يكبر عمره آنذاك بمئات السنين، واصفة شقيقها بـ “رُجلالعائلة المُثقف” لِما كان يملكه من فصاحة وبلاغة تُميّزه عن غيره“.
وتشير إلى أن شقيقها مُطاردًا منذ صغره، مؤكدةً أنه اُعتقل أول مرة في عُمرِ الـ(14 عامًا)، بتهمةِ إلقاء عبوات حارقة “المولوتوف” على قواتالاحتلال.
وتُردف أن محمود قضى في السجن 28 عامًا، لافتةً إلى أن أمضى 25 عامًا في السجون بشكل متواصل، منذ عام 1996 وحتى الآن.
وعن قهرِ الفلسطيني، تُوضح “هدى” أن وفاة والدها، كان في العام الذي أعُتقل فيه محمود عام 1992، موضحةً أن والدها زار شقيقها مرتينداخل أسوار معتقل “الفارعة” و “مجدو“، وفارق الحياة حسرةً عليه“.
كتبت: إيمان شبير
المصدر: وكالة سند للأنباء