على أعتاب الذاكرة، انتصبت شجرة النارنج الخضراء في حوش بيت امتزجت فيه حجارة الشام بروائح القدس العتيقة لتحكي عن الذين ما زالوا هنا أو هناك وحتى عن الذين ارتحلوا. هي قصة بلغ عمرها 50 عاما قضاها “يعرُب” في مجاهيل الغياب منذ حمل سلاحه وتطوع للقتال دفاعا عن فلسطين عام 1967.
في حضرة غيابه تغير الكثير، ولدت دول وأجيال وارتحل آخرون من بينهم زوجته ثريا التي عاد “يعرب” إليها فلم يجد من آثارها إلا قلادة كان كل من الزوجين يحتفظ بنسخة منها، ورسائل كانت ثريا تكتبها لتحمي نفسها في ظل “يعرب” من أرق البعد الرهيب.
أما “سارة” حفيدة “يعرب” و”ثريا” فهي صحفية شابة ظلت تعيش في الشام وتعمل في ملف البحث عن الجنود السوريين الذين فقدوا في الحروب مع “إسرائيل“، كانت سارة تحتفظ بالقلادة وترتديها كما تحتفظ برسائل الحب والحرب التي ألقت بها في حضن الجد عند عودته لعلها تخفف عنه وحشة الحضور بعد طول الغياب.
رسائل الحب والحرب
يعرب وثريا وسارة؛ هم أبطال رمزيون يجسدون حياة كثير من الأسر العربية في تفاعلاتها مع قضية فلسطين قبل أن يلعبوا دور البطولة في رواية “رسائل الحب والحرب بين القدس ودمشق” وهي أولى الروايات للكاتبة الفلسطينية المهندسة راما جمال.
تحمل الرواية -التي نشرتها “الدار العربية للعلوم ناشرون” في بيروت– الكثير من تفاصيل البيئة الفلسطينية والسورية وتركز بشكل كبير على مشتركات الإنسان والمكان بين البلدين، وتغوص في اختلاجات النفس وصراعها الداخلي بين مقدسات الذات العليا التي يختلط فيها الحب بالحرب بالرحيل وأطياف الغائبين.
حلّقت رواية الحب والحرب بين القدس ودمشق في فضاء المعرض الدولي السادس للكتاب العربي الذي افتتح في مدينة اسطنبول التركية في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري والذي استمر حتى 17 من الشهر ذاته، وحققت الرواية مرتبة “الأكثر مبيعاً” في المعرض إلى حد نفاد جميع نسخها بما فيها تلك التي كانت مخصصة للتوزيع والإهداء في حفل التوقيع الذي كان من المفترض إقامته يوم الجمعة الماضي قبل أن يتعذر ذلك لنفاد النسخ.
وتقول -المؤلفة التي تعمل مهندسة وتقيم في الأردن وهي من بيسان في فلسطين المحتلة عام 1948- إن الإقبال الكبير على الرواية يكمن في كون فكرتها مستوحاة من واقع الأسر العربية وتفاعلاتها مع القضية الفلسطينية.
دمشق الصغرى
وكما جسدت الرواية الورقية تشابه المشاعر والمفاهيم والقيم وقدمت المؤلفة تجسيداً جديداً لوحدة الحال المكاني بين سوريا وفلسطين عبر تقديم روايتها في ثوب سينمائي يحمل اسم “نارنج”.
ففي 8 دقائق فقط، يقدم الفيلم الصامت أوجه التشابه بين العاصمة السورية دمشق ومدينة نابلس الفلسطينية التي يطلق الفلسطينيون عليها لقب “دمشق الصغرى”، فيظهر كثيرا من جوانب الشبه في البنيان والعمران وحارات البلدات القديمة والعادات والتقاليد وحب الياسمين.
كما يجسد الفيلم روح الصمود والمقاومة في المدينتين اللتين يتشابه أبناؤهما في اللهجة والسلوك وحتى في ملامح الوجه وفي طقوس الحزن والفرح الذي يظهر جليا على وجه الحفيدة سارة وهي تفتح صندوقا من الخشب المزخرف لتخرج منه قلادات الأجداد وترتديها وكأنها تعيد الرواية سيرتها الأولى.
وتقول راما جمال -التي تولت مهمة إعداد السيناريو والإخراج في أولى تجاربها السينمائية أيضا- إنها اختارت التعبير عن روايتها بفيلم قصير كطريق للتعريف بالرواية ونقل فكرتها المختصرة إلى الجمهور عن طريق العين.
وأضافت -في حديث لـ”الجزيرة نت”- أن الفيلم يتناول عموميات الرواية ومفاصلها دون الغوص في تفاصيلها الكثيرة، موضحة أن فكرة تحويل الرواية إلى فيلم قصير ولدت خلال زيارتها لمدينة نابلس التي رأت في بلدتها القديمة أجزاء كثيرة تشبه دمشق وأخرى تشبه القدس.
وأوضحت أنها اختارت الخلفية الصامتة لفيلمها الذي يخلو من كل صوت إلا خلفية الموسيقى لتتجاوز عوائق اللغة وتجعل الفيلم متاحا للجمهور الناطق بكافة اللغات، مشيرة إلى أنها ترغب بتحويل الرواية إلى سيناريو عمل درامي كانت تعمل على التعاون فيه مع المخرج السوري الراحل حاتم علي، قبل أن تحول وفاته بينها وبين تحقيق ذلك المسعى.
إمكانات بسيطة
ولقي فيلم نارنج اهتماماً لافتاً من الجمهور العربي والمتابعين والنقاد أثناء عرضه ضمن الفعاليات الثقافية المصاحبة لمعرض الكتاب الدولي السادس.
فقد قال محمد خير إن الفيلم الذي أنتج بإمكانيات محلية وبتجربة أولى ولم تزد تكلفة إنتاجه عن 1500 دولار لم يفتقد عناصر الجذب والتشويق، وأنه نجح رغم صمته في نقل مشاعر شخوصه إلى الجمهور.
وأوضح المتابع السوري -في حديث لـ”الجزيرة نت”- أن الفيلم نال قسطاً كبيراً من التوفيق في عرض التفاصيل عن حارات الشام القديمة وعن قيمة التضحية من أجل الوطن والحلم بالعودة إليه، لا سيما أن الروابط بين القدس ودمشق تحظى بالقدسية في ذهن الإنسان العربي، وفقا لتعبيره.