“كنت قد بدأت عامًا دراسيًا جديدًا منذ سبتمبر، وحتى تاريخ المجزرة الـ29 من أكتوبر، لم أكن أملك كراسةً للرسم بعد، لضيق الحال وتعسره ماديًا، فعزمت أمي العمل في قطاف الزيتون لتأمين احتياجاتي المدرسية، رغم أنها كانت حامل في شهرها الثامن”. بنبرة بالغة الحزن تتأرجح بين غصتين، قال علي صرصور ابن شهيدة كفر قاسم فاطمة صرصور لـ”التلفزيون العربي”.
وتابع، “وعدتني أمي أن تعود وبحوزتها كراسة الرسم، انتظرت طويلًا فلم تأت، وقلقت كيف أذهب في الغد دون دفتري، كان هذا أقصى ما أفكر به، لم أتخيل للحظة أن ينطفئ العالم، وأن يختل وجداني بغياب أمي الأبدي”.
هذه واحدة من عشرات القصص الأليمة التي تعيدها مجزرة كفر قاسم إلى الذاكرة، قصص لقتلى من مسنين ونساء، وأطفال تتراوح أعمارهم بين 8-17 عاما، وقد سقط عند المدخل الغربي للقرية وحده 43 قتيلاً.
حكاية المجزرة
نفذت مجزرة كفر قاسم عام 1956، ضمن خطة تهدف إلى ترحيل فلسطينيي منطقة “المثلث الحدودي“ التي تقع فيها بلدة كفر قاسم، عن طريق ترهيب السكان على غرار مذبحة دير ياسين.
وقتلت “إسرائيل” بدم بارد خلال 1949-1956 ثلاثة آلاف فلسطيني معظمهم ممن حاولوا العودة بعد تهجيرهم إلى بلدان الجوار، وقد تولت تنفيذ هذه المجازر وحدة خاصة بقيادة أرئيل شارون عُرفت باسم “101”.
وفي أجواء القتل وهيمنة عقلية المجازر في “إسرائيل”، جاءت مذبحة كفر قاسم التي نفذت “إسرائيل” قبيلها كل من مجزرة 11 سبتمبر/أيلول 1956 حيث قتلت 20 جنديا أردنيا في هجوم على معسكرهم، ثم قتلت 39 فلسطينيا بقرية حوسان في قضاء بيت لحم، و88 آخرين في قلقيلية في نفس الشهر.
ورغم أن هذه المجازر تقارب في بشاعتها مجزرة كفر قاسم، فإن السياق السياسي الذي حدثت فيه مجزرة كفر قاسم أعطاها بعدًا أكبر، وذلك لتزامنها مع أول أيام العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” على مصر، بعد أن أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس.
واستغلت قوات الاحتلال الإسرائيلي المسماة “حرس الحدود” انشغال العالم بحرب السويس لتنفيذ هذه المجزرة البشعة، وعند تنفيذها طوقت القوات الإسرائيلية البلدة من جهات ثلاث بينما أبقت الجهة الشرقية نحو الضفة الغربية مفتوحة، مما يعكس عزم الاحتلال على تهجير سكانها.
تفاصيل الحادثة
بدأت المجزرة عندما أعطت قيادة جيش الاحتلال أمرًا يقضي بفرض حظر التجول على القرى العربية في “المثلث الحدودي” الذي يمتد من أم الفحم شمالاً إلى كفر قاسم جنوباً، بدءا من مساء الـ29 من أكتوبر/تشرين الأول 1956 وحتى صباح اليوم التالي.
وكان القرار حازما، إذ أرفِق بقرار أمني يخوّل الجنود إطلاق النار وقتل كل من يتجول بعد سريان الحظر -وليس اعتقاله- حتى ولو كان خارج بيته لحظة إعلان منع التجول، لأن قيادة الجيش كانت تقول “إنها لا تريد التعامل مع السكان بالعواطف”.
ووُزعت قوات من جيش الاحتلال على القرى الفلسطينية في المثلث (من بينها كفر قاسم، وكفر برا، والطيرة، وجلجولية، والطيبة، وقلنسوة)، وكان يقودها آنذاك رائد يتلقى الأوامر مباشرة من قائد كتيبة الجيش الموجودة على الحدود.
توجهت مجموعة من الجنود إلى بلدة كفر قاسم وقُسمت إلى أربع فرق بحيث بقيت إحداها عند المدخل الغربي للبلدة، وأبلغ الضابط “مختارَ” البلدة في ذلك الوقت وديع أحمد صرصور بقرار منع التجول وطلب منه إبلاغ السكان بالتزامه ابتداء من الساعة الخامسة.
ولفت صرصور للضابط إلى وجود أربعمئة شخص يعملون خارج القرية لم يعودوا بعد، فأعطاه وعدًا بأن هؤلاء سيمرون بسلام عند عودتهم ولن يتعرض لهم أحد بسوء.
لكن، شكّل مساء ذلك اليوم مرحلة مفصلية في تاريخ كفر قاسم والشعب الفلسطيني عامة، ففي تمام الخامسة مساءً، دوّى صوت رصاص كثيف داخل البلدة فصمّ آذان معظم سكانها، إثر إطلاق الجنود النار على مجموعة من الأهالي كانوا عائدين من حقول زراعتهم في المساء إلى بلدتهم، فقتلوا منهم 49 شخصا وأصابوا العشرات بجروح بالغة، بذريعة خرق منع تجول لم يعلموا بإعلانه المفاجئ.
جريمة إخفاء المجزرة
وقد حاولت الحكومة الإسرائيلية برئاسة ديفد بن غوريون إخفاء حقيقة مذبحة كفر قاسم، إذ نـُشر أول خبر عنها في الصحف بعد أسبوع من وقوعها أي في الـ6 من نوفمبر، أما تفاصيلها فمنعت الحكومة وصولها إلى الرأي العام إلى يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 1956.
وتمكن نائبيْن شيوعيين من كشف ملابسات الحادث بعد تسللهما إلى البلدة لاستقصاء الحقائق بشكل مباشر من الشهود والمصابين، وإعداد وثائق ليتم طرحها داخل الكنيست الإسرائيلي، وإرسال وثائق خاصة بالواقعة إلى وسائل الإعلام والسفارات الأجنبية وكافة أعضاء الكنيست.
وبفعل جهودُهما، اضطرت الحكومة على تشكيل لجنة لتقصي الحقائق والبدء في إجراء تحقيق، أسفر عن محاكمة من اعتبرتهم الحكومة الإسرائيلية مسؤولين مباشرين عن المجزرة. فأجريت محاكمة صورية لهم حُكم فيها على الضابط شموئيل ملينكي بالسجن 17 عاما، وعلى جبرائيل دهان وشالوم عوفر بالسجن 15 عاما، وعلى الجنود الآخرين بالسجن لمدة ثماني سنوات.
أما قائد حرس الحدود المقدم شدمي -الذي أعطى الأوامر بالقتل- فقد تمت تبرئته من ارتكاب الجريمة وغُرّم بدفع قرش واحد، وقد قال -في حديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية- إنه نفذ “أوامر عليا” حين أمر جنوده بقتل المدنيين قائلا: “احصدوهم”.
ثم غُيّرت الأحكام الصادرة بحق مرتكبي الجريمة، حيث خُففت بعد الاستئناف لتصبح 14 عاما بحق ملينكي، وعشرة أعوام لدهان، وتسعة أعوام لعوفر. ثم خُفضت مرة أخرى باتجاه إلغائها نهائيا، إذ تدخل رئيس الدولة وخفض الأحكام إلى خمسة أعوام لكل من ملينكي وعوفر ودهان. وأطلِق سراح آخرهم مطلع عام 1960.
كتبت: سمية النجار
المصدر: وكالات+ التلفزيون العربي