الأخبار

حكاية لا تشيخ.. هذا ما حدث لطالب من طولكرم في نابلس قبل 40 عاما

By Sajeeda

October 25, 2025

بقلم: د. خالد الكرمي (نُقل بتصرّف)

“منذ أكثر من أربعين عامًا، ما زلتُ أتذكّر حادثةً صغيرة في ظاهرها، كبيرةً في معناها، حفرت في ذاكرتي دروسًا في الكرم والإنسانية، لا تُمحى مهما طال الزمن.

كان عمري آنذاك خمس عشرة سنة، وكنت أنتظر بفارغ الصبر صدور نتائج الشهادة الإعدادية. حين قرأت اسمي في جريدة القدس بين الناجحين، غمرتني سعادة لا توصف. أردت أن أحتفل على طريقتي الخاصة، فقررت السفر من طولكرم إلى نابلس لشراء كنافة، أقدّمها لأهلي وأصدقائي ابتهاجًا بنجاحي.

وضعت في جيبي خمسين ليرة ورقية وليرتين معدنيتين، ودفعت الليرتين أجرة الباص. وعندما وصلت إلى نابلس، توجهت مباشرة إلى السوق، ودخلت محل حلويات صغير يجلس صاحبه أمامه إلى جانب ابنه الصغير.

طلبت منه كيلوين من الكنافة، ومددت يدي إلى جيبي لأُخرج النقود، لكنني لم أجد الخمسين ليرة. بحثت في الجيب الأيمن ثم الأيسر، عبثًا. بدت ملامح الحزن واضحة عليّ، فقلت للتاجر معتذرًا:

“عمي، يبدو أنني أضعت المبلغ، سأعود لاحقًا لآخذ ما طلبته منك.”

ابتسم الرجل وقال بهدوء الأب وحنان الفلسطيني:

“ولا يهمك يا ابني، اجلس واشرب كاسة شاي، بسيطة.”

ثم جمع ما وَزَنه من الكنافة ووضعها في علبة، وقال:

“خذها يا ابني، وفي المرة الجاية بتسدّد. الناس لبعضها يا ابني.”

ترددت في أخذها، وقلت له بأدب:

“قد لا أعود إلى نابلس قريبًا، وأنا لا أحب الاستدانة.”

لكن الرجل أصرّ، وقال بثقة:

“أنا متأكد إنك راح ترجع وتسدد.”

أخذتُ العلبة وخرجت من المحل، والخجل يملأني. وبعد أن ابتعدت قليلًا، سمعت صوت ابنه يناديني من بعيد:

“عمو، استنى شوي!”

ركض نحوي وهو يحمل النقود، وقال إن والده وجد الخمسين ليرة على أرض المحل، وقد خصم منها ثمن الكنافة، وأعطاني الباقي. شكرته بامتنان، وشعرت بسعادة كبيرة لأنني لم أحمل دينًا في رقبتي، ولأن معي ما يكفي لأجرة الباص للعودة إلى طولكرم.

لكن المفاجأة كانت عندما وصلت إلى البيت، وأدخلت يدي في الجيب الخلفي للبنطال، فوجدت الخمسين ليرة الأصلية هناك. قصصت ما حدث على والدي، فابتسم وقال لي:

“تجار نابلس تجار أبا عن جد، ويحملون كل معاني الإنسانية. خذ الخمسين ليرة وردّها لصاحبها، ومعها أقراص زعتر من عمل والدتك، وادعه لزيارتنا.”

وفي الأسبوع التالي، عدت إلى نابلس ومعي المال والهدية. عندما رآني التاجر من بعيد، ارتسمت على وجهه ابتسامة، وقال لي:

“ألم أقل لك إنك ستعود؟ خذ هذا الكيلو من الهريسة، وسلّم لي على والدك وعلى أهل طولكرم.”

واليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، ما زالت ملامح ذاك التاجر وابنه حاضرة في ذاكرتي. فقد علّماني معنى الكرم الحقيقي، وأكّدا لي أن فلسطين — رغم كل ما تمر به — ما زالت تنبض بإنسانيتها وأصالتها.

هيك كانت فلسطين… وهيك بيظلّوا أهلها: كرم، ونُبل، ورُقيّ”. 🇵🇸