الأخبار

تحقيق استقصائي: الضفة الغربية تغرق بزيت الزيتون المغشوش

في موسم زراعي هو الأسوأ منذ عام 2009، تشهد أسواق الضفة الغربية فيضاناً غامضاً من زيت الزيتون، يُباع بأسعار لا تتفق مع المنطق الاقتصادي لندرة الإنتاج.

هذا التحقيق يتتبع خيوط الغش من إعلانات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى المختبرات، كاشفاً عن عمليات احتيال متطورة تجاوزت الغش البسيط، لترقى إلى “صناعة” تهدف إلى الربح، وخداع المستهلك والرقابة، عبر طرق لا تكشفها الفحوص التقليدية.

الشكوك بدأت تتراكم مع أول أيام الموسم. بينما كانت أسعار إنتاج العام الماضي الوفير (27 ألف طن) لا تقل عن 30 شيكلاً للكيلو في بداية الموسم، غرقت صفحات التواصل الاجتماعي بعروض لزيت “شمال الضفة” بأسعار تتراوح بين 22 و25 شيكلاً.

على أي أساس؟ هذا السؤال قادنا إلى الغوص في عالم الغش.

على عينك يا تاجر

كانت البداية مع تاجر ينشط في الخليل يروج لـ “زيت زيتون” من إنتاج عام 2024. تواصلنا معه لطلب “تنكة” زيت: 350 شيكلاً، غير شاملة التوصيل. التاجر، الذي ادعى أن الزيت “شمالي”، أي أن مصدره محافظة جنين في شمال الضفة الغربية، كان واثقاً لدرجة أنه قال: “افحص قبل ما تدفع”. لكنه وضع حدوداً لهذا الفحص؛ فبإمكاننا التذوق أو المشاهدة، أما الفحص المخبري، فيتطلب الحضور إلى الخليل وأخذ عينة: “وإذا بدك 3 تنكات بحسبهم ألف شيكل“.

اشتريت التنكة عبر شركة للتوصيل (مقرها الرام شمال القدس) وتوجهت بها من رام الله إلى مختبر وزارة الزراعة بنابلس في اليوم التالي. النتيجة لم تتأخر: العينة غير مطابقة، مغشوشة بخلطها بزيت نباتي. الغش هنا كان تقليدياً لكنه مؤكَّد.

تحركت موظفة المختبر لإبلاغ مديرية زراعة الخليل لاتخاذ الإجراءات، لكن الرد جاء صادماً: التاجر معروف، لكن يتعذر متابعته لأنه يقيم في المنطقة (H2) بالخليل؛ نقطة جغرافية خارج سيطرة السلطة الفلسطينية، ما يضع عقبة أمنية مباشرة أمام تطبيق القانون. وكشفت عمليات البحث أن هذا التاجر يملك “مشغلاً مرخصاً لتقديم “الخدمات المهنية والاستشارية/ الدعاية والإعلان” في المنطقة الصناعية بالخليل، دون أي إشارة إلى تجارة الزيت.

إلى نابلس.. “غش” أكثر تعقيداً

لم يتوقف التحقيق. انتقلنا إلى تاجر آخر ينشط في قرية قريبة من نابلس، يروّج لزيت زيتون وأجبان. في صبيحة خريفية، وصلتُ إلى محله. التاجر رحب بي بحذر، ثم قال إنه غير مخوَّل بالبيع اليوم لأن الضابطة الجمركية سحبت منه عينات، ولن يبيع إلا بعد صدور النتائج. ثم تراجع قائلاً: “كرمال جيتك من خارج نابلس، بعطيك تنكة واحدة فقط“.

لم تمضِ دقائق حتى أطلعني على نتيجة فحص مخبري صادر عن الوزارة: “مطابق للمواصفة الفلسطينية”. دفعتُ 375 شيكلاً، وطلبت منه وصل دفع أو فاتورة، فرفض قائلاً: “لا يوجد عندي. السوق كله يعرف أن سعرها 400 شيكل”. ولتوثيق العملية، طلبنا منه تسجيلًا صوتيًا يثبت استلام المبلغ، وهو ما تم على الفور.

أخضعت عينات من هذا الزيت الذي قال التاجر إنه من إنتاج الموسم الماضي، لفحصين في مختبرات الوزارة بنابلس ورام الله، وكانت النتيجة واحدة: مطابق للمواصفة. لكن التناقض بدأ يظهر. فحص الحموضة والبروكسيد -رغم أنه ضمن الحدود المسموح بها- أظهر تفاوتاً بسيطاً بين العينتين في مختبري نابلس ورام الله، ما أيقظ الشك لدينا. بالإضافة إلى أن تاجراً مطلعاً فضّل عدم كشف هويته، أكد لنا أن الزيت المروج بهذه الأسعار “لا يمكن أن يكون زيت زيتون خالصاً“.

تعتمد فحوصات الجودة الروتينية التي تجريها مختبرات وزارة الزراعة الفلسطينية بشكل أساسي على فحص ثلاثة عناصر في الزيت: الحموضة، و رقم البيروكسيد، و الكشف عن الخلط (الغش). هذه الفحوصات، على أهميتها، تقيّم الجودة الأولية للزيت وسلامته الأساسية، ولكنها تظل قاصرة عن كشف مؤشرات التدهور المتقدم أو عمليات المعالجة الخفية. علما أن تكلفة هذا الفحص تبلغ 29 شيكلاً للعينة الواحدة.

ما عزز قرارنا بالانتقال إلى مستوى فحص أعمق هو ما أفاد به خبير في قطاع الزيت: “الخلط لم يعد يقتصر على الزيوت النباتية الرخيصة. الأمر بات صناعة متقدمة للغش، تعتمد على طرق لا يمكن للفحوص البدائية كشفها“.

أخذنا عينة من زيت نابلس الذي ظهر مطابقاً للمواصفة الفلسطينية (من خلال فحوص مختبرات وزارة الزراعة)، إلى مختبرات جامعة بيرزيت، وطلبنا فحوصاً متقدمة تتجاوز الطريقة البسيطة المعتمدة لدى الزراعة.

وبالفعل، جاء فحص بيرزيت ليقلب الموازين. كشف التحليل المخبري المعمق للزيت الذي سُوِّق بجودة عالية وبسعر منافس، عن فشل حاسم وذريع في مؤشرات الجودة الهيكلية، متجاوزاً بذلك المعايير التي فشلت الفحوصات الروتينية لوزارة الزراعة في الكشف عنها. الزيت غير صالح للاستهلاك الآدمي.

تركز جوهر الفشل على قيمة K270، التي تُعد المقياس الأدق للأكسدة الثانوية (التزنخ المتقدم)، أو وجود تلاعب مثل الخلط بزيوت مكررة. سجلت العينة نتيجة كارثية بلغت 0.432، متجاوزة بكثير الحد الأقصى المسموح به لزيت الزيتون البكر الممتاز (0.22)، وحتى الحدود المسموحة للزيت البكر، والزيت البكر العادي.

يعني هذا الارتفاع أن الزيت قد تعرّض للتدهور الشديد أو لعمليات معالجة حرارية غير مسموح بها، ما يؤكد دخول الزيت في مرحلة التحلل.

هذا الفشل الكيميائي “الخطير” وجد تأكيداً مباشراً من مديرة الجودة في مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية، ورئيسة الفريق الوطني لتذوق زيت الزيتون، تغريد شحادة، التي قدمت رأياً حاسماً بأن طعم الزيت “رديء” و”غير مستساغ للبشر” لدرجة عدم قدرتها على بلعه، مرجعة ذلك بشكل صريح إلى الأكسدة العالية، ووصفته بأنه يشبه “السمن” المتزنخ الذي يعلق في الحلق.

فحص التذوق – تغريد شحادة، رئيسة الفريق الوطني لتذوق زيت الزيتون، مدير إدارة الجودة في مؤسسة المواصفات والمقاييس الفلسطينية

وبإسناد رأي الخبيرة وفحص “بيرزيت”، أكد خبير رسمي في قطاع الزيتون، أن هذا التدهور يرجح أن يكون نتيجة لكون الزيت قديماً جداً، أو خضع لعمليات تكرير جزئي، أو أنه زيت جفت (مستخلص من البقايا)، مؤكداً أنه لا يصنف تحت أي فئة من فئات الزيوت البكر (الزيت المعصور من ثمرة الزيتون).

وبناء على تجاوز قيمة K270 لهذا الحد الحرج، يُصنف هذا الزيت وفقاً لمعايير مجلس الزيتون الدولي كـ “زيت زيتون مكرر” (Refined Olive Oil) أي أنه “غير مطابق للمواصفات“.

لذلك، ووفقاً للتحليل الكيميائي والتقييم الحسي الحاد، فإن هذا الزيت غير صالح تماماً للاستهلاك البشري المباشر؛ فهو فاقد لفوائده الصحية وخصائصه الفاكهية ويحمل عيوباً حسية تجعله غير مقبول، ولا يُسمح باستخدامه في الصناعات الغذائية.

يشير هذا التناقض إلى أن الاعتماد على المعايير الثلاثة الأساسية فقط، قد يسمح لزيوت متدهورة هيكلياً أو مُعالجة -تُصنَّف دولياً كزيت مكرر غير صالح للاستهلاك المباشر- بالمرور في السوق، خاصة إذا كانت تُسوَّق بأسعار رخيصة مثيرة للريبة.

وهذا ما حدث في الزيت المشترى من إحدى قرى نابلس ويروج على وسائل التواصل، على أنه زيت ممتاز من العام الماضي. كان التاجر يحرص في إعلاناته من خلال “فيسبوك”  على الاستشهاد بفحصوصات وزارة الزراعة التي كان يعرضها، وزدودنا بنسخة منها، لتشكل شهادات الفحص التي بحوزته بوابة عبور كميات هائلة من الزيت الرديء، إلى خزائن المونة في البيوت الفلسطينية.

تحقيق: فراس الطويل

زر الذهاب إلى الأعلى
تلفزيون المدينة

مجانى
عرض