الأخبارسياسة

الجرح الذي لا يندمل

استباقًا لجنازة قد تؤجّل دهرًا، يتسابق الفلسطينيون لسحب جثامين الشهداء من قلب الحدث قبل أن تحتجزها قوات الاحتلال، وتحيلها إلى مصيرٍ مجهول عن ذويهم، وتحفظهم أرقامًا في مقابر وثلاجات لا تعرف عنها المنظمات الإنسانية والحقوقية شيئًا، ومنتهكة ً بذلك كل القوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية والشرائع السماوية.

ومنذ عام 1967، تواصل إسرائيل احتجاز رُفات 253 من ضحايا الحرب العرب والفلسطينيين في مقابر الأرقام، وترفض الاعتراف بمصير 68 شخصًا آخرين مفقودين، إضافةً إلى 81 شهيدًا منذ اندلاع انتفاضة القدس عام 2015 بمصائر مجهولة تمامًا، وفقًا لإحصاءات اللجنة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء.

، يعيش ذويهم حسرة الفقدان مرارًا، هلوسات بوداع أخيرٍ وقبلة جبين بارد بقلوب تحترق، وتنتظرهم الأرض التي رووها دمًا طاهرًا لتضمهم بترابها، في صورة قبور تنتظر موتاها.

عمر أبو ليلى، واحدٌ ممن حرم هناء أن يرقد الجسد في حضن ثراه، بعد أن حلقت الروح إلى بارئها، ومحتجزٌ في ثلاجات الاحتلال منذ عام 2019، واستشهد عقب اقتحام قوات خاصة من قوات الاحتلال بلدة عبوين، وتفجير البيت الذي كان فيه.

تقول والدة الشهيد أبو ليلى لـ”نابلس بوست”، “أنا بدي أدفنو عندي بالبلد، وأودعه وأشوفه وأقرأ لروحه الفاتحة”، وبرجفةٍ ودمعة تتابع “أنا ما بنام الليل.. صورة ابني ما بتروح من عيني، الثلاجة ما بحب أشوفها ولا أفتحها.. هذا بكري وكلشي بذكرني فيه.. الله يحرق قلوبهم زي ما حرقوا قلبي على ابني”.

وآخرٌ من هؤلاء الشهداء، بلال رواجبة ابن محافظة نابلس، والذي استشهد في نوفمبر/2020، وما يزال جثمانه محتجزًا.

“من حقي أحضن جثمان ابني، من حقي أودعه، من حقي أقبله ومن حقي أزور قبر ابني بلال.. بدي جثمان الشهيد بلال”، كلمات والدته ببسمتها وشرودها وفخرها، تتبعهن الدمعة بحرقة شوقها وهي تطالب كل الجهات الرسمية والصليب الأحمر الالتفات لجثامين الشهداء المحتجزة، والاستجابة لمطلبهم المتمثل باستلام الجثمان ومواراته الثرى على أرضه.

وتتابع بحسرة قائلةً إن ضابطًا من قوات الاحتلال هاتفها، وقالت له إن ابنها عريسًا هنيئًا في حياته، مسالمًا ورضيًا.. لماذا غدرتم به وبأي تهمة حرمتم طفلته الرضيعة منه؟ في حين أجابها الضابط أن من حق عائلته معرفة مصيره.

يبدو المشهد ضبابيًا بالدموع والحسرات، مطالب شعبية وحملات تقام بشأن جثامين بمصائر مجهولة، وحملة واسعة باسم “حملة استرداد جثامين الشهداء المحتجزة”، وسط ظلم صارخ واحتلال يشرعن بطشه، ويسوّغه بقوانين لا تقبلها مواثيق ولا قوانين.

ومنذ عام 1968 وسلطات الاحتلال الإسرائيلي تنتهج سياسة احتجاز جثامين مئات الشهداء الفلسطينيين في “مقابر الأرقام”، والتي تسمى هكذا لأن الجثامين فيها معرفة بأرقام ولا هوية ظاهرة لها، وكانت معظم عمليات الدفن والاحتجاز فيها منذ الستينيات والتسعينيات بحق مناضلين فلسطينيين وعرب، خاصةً ممن عبروا الحدود الشرقية لفلسطين، ولاحقًا دفن الاحتلال في مقابر الأرقام شهداء من الانتفاضتين الأولى والثانية.

وصدر قرارٌ من الكابينت في الثالث من أكتوبر من عام 2015، يقضي بالعودة لاحتجاز جثامين الشهداء كجزء من العقاب الجماعي الذي كان مفروضاً على سكان مدينة القدس والضفة الغربية مع انطلاق مايسمى بـ”هبة السكاكين”، وشرع هذا القرار بأمر من المحكمة العليا الاسرائيلية في التاسع من سبتمبر/2019.

وقضى قرار جيش الاحتلال باحتجاز الجثامين لغرض التفاوض، ووضع شرطين للاحتجاز، أولها أن يكون الشهيد أو أحد أفراد عائلته ينتمون سياسياً لحركة “حماس”  أو أن يكون ممن نفّذ عملية نوعية بحسب وصفهم.

عائلاتٌ بحيوات متوقفة، عند لحظة قرر فيها الاحتلال فرض سياساته على جثامين أبناءها، يعانون من عيش اليوم بعاديته، وممارسة أبسط الأعمال في غياب صورة شهداءهم، هو عذاب جماعيٌ يتكرر في صور لا تتوقف، منذ لحظة الاستشهاد وحتى تلاقي الأمهات جبن أبناءهن الباردة، ليكتوي القلب ناره الأخيرة، ويؤجل اللقاء إلى أبد الجنان.

كتبت:سمية النجار

زر الذهاب إلى الأعلى
تلفزيون المدينة

مجانى
عرض