تعيشُ مدينة القدس وأسواق بلدتها القديمة منذ سنوات طويلة واقعًا صعبًا، في ظلِ الإجراءات المُشدّدة والقيود التي يفرضها الاحتلال، إلا أن هذا الواقع ازداد صعوبة تزامنًا مع معركة “طوفان الأقصى“.
فخلال الحرب على غزّة، حوّل الاحتلال مداخل البلدة القديمة والمسجد الأقصى لـ “ثكنةٍ عسكرية”، عن طريق تعزيز قواته وعناصره بشكلٍ مكثّف، ومَنعِ الدخولِ لغيرِ سُكّانها، والتنكيل بالوافدين والمقدسيين، وإثقال كاهل التُّجار بفرضِ ضرائبٍ باهظةٍ عليهم.
ونتيجةً لهذه القيود؛ تبدّل حال البلدة القديمة من أسواقٍ مُفعمةٍ بالزّوار والحياة إلى مكانٍ فارغٍ مُعظم مَحاله التجارية مُغلقة ومُعتِمة، وباتت أرواح الفلسطينيين تتوقُ شوقًا للتجوّل بين أزقتها وحاراتها وتفاصيلها المليئة بالأصالةِ والعراقةِ، والشراء من محالها التجارية التي يفوحُ منها عبَقَ التاريخ، ويتميّزُ أصحابها بالشهامة والبشاشةِ والصمود.
تنكيلٌ وطلباتٌ تعجيزية..
المهندس المقدسي محمد هديب، وجّه دعوةً لإعادة إحياء وافتتاح أسواق البلدة القديمة التي أرهقها الكساد الاقتصادي، خاصةً “سوق القطانين”، أحد أشهر الأسواق الواقعة على مدخل المسجد الأقصى المبارك.
يقول “هديب” في حديثه لمصادر إعلامية إن شرطة الاحتلال تُلاحق أصحاب المحال التجارية قُبَالةِ “طوفان الأقصى”؛ فعندما كان يعمّ الإضراب الشامل، كانت تلتقط صورًا لكافة المحال المُلتزمة به، وفي اليوم التالي، تُرسل لهم طواقم الضريبة وتبدأ بالتنكيل بهم.
ويسرد لنا: “في أول أيام الحرب، أغلق الاحتلال البلدة القديمة والمسجد الأقصى الذي هو شريان الحياة فيها، ومنع الوافدين من الدخول، واستفرَدَ بأهلها، وبدأ بالتنكيل بأصحاب المحال التجارية، ومطالبتهم بطلباتٍ تعجيزيةٍ لا تنطبق على مبانٍ تاريخية شُيّدت داخل البلدة القديمة”.
ويُكمل بصوتٍ يشوبه الألم: “على سبيل المثال، بدأ بمطالبة صاحب صالون الحِلاقة بإضافة دورة مياه ومغسلة وكراسي للوافدين (..)؛ لذلك قرّر التُّجار إغلاق محالهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ما أدى لانطفاء أنوار البلدة القديمة وباتت دون روحٍ وحياة“.
دعواتٌ لإعادة الافتتاح..
ويعيشُ “هديب” في باب الحديد، وروحه مُعلّقةٌ بالبلدة القديمة وأسواقها، خاصةً “سوق القطانين” الذي يقضي فيه أجمل أوقاته التي لا يحظى بها سوى في هذا المكان.
ويُحدّثنا بحسرة: “مشهدٌ محزن جدًا عندما أصبحنا نمرّ بأزقة السوق، ونرى كلَّ شيءٍ فيه مُغلَق ومُعتِم.. كُنا نخرج منه بعد صلاة الجمعة ونتمشى مع أطفالنا عبر حوانيته التي تعجّ بالحياة وبالزائرين، لكن كل شيء تغيّر في ظل الحرب”.
ويضيف: “مؤخرًا، باتت بعض المحال التجارية تُعيد فتح أبوابها، لذلك نحنُ نريد تشجيع كافة أصحاب المحال، وندعوهم لإعادة الافتتاح وإعمار البلدة القديمة، حتى في حال كلّفهم الأمر توكيل محامٍ جماعي يُتابع قضيتهم”.
ويناشد أهالي مدينة القدس وكلّ من يستطيع الوصول لإحياء البلدة القديمة عامةً وهذه الأسواق المهمشةِ خاصةً؛ مشيرًا إلى أن عجلة الاقتصاد فيها باتت “شبه مشلولة.
ويختتم مُشدّدًا:”واجبنا الديني والمجتمعي يُحتّم علينا الحفاظ على هذه الأسواق التاريخية، كي لا تواجه مصير سوقيْ “اللحامين والخواجات” اللذان أُغلقت معظم محالهم بشكلٍ دائم”.
خسائر اقتصادية..
بدوره، يُبيّن أحد التُّجار المقدسيين أحمد دنديس، أن حال أسواق البلدة القديمة خلال الحرب باتَ أشبه بـ “مدينة الأشباح”؛ لافتًا أنها تحتوي على 1400 محل، منها نحو 400 مُغلقة بشكلٍ كامل بسبب تضييقات الاحتلال على مدار السنوات.
ويقول”: “البلدة القديمة تعتمد على السياحة الداخلية والخارجية؛ لكن السياحة الخارجية تضرّرت بشكلٍ كبير خلال السنوات السابقة بسبب جائحة كورونا”.
ويستطرد: “أما السياحة الداخلية، فقد اقتصرت على المقدسيين وأهلنا في الداخل المحتل، جرّاء فصل الاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة عبر جدار الفصل العنصري”.
ويُشدّد “دنديس” أن إجراءات الاحتلال المُكثّفة في الآونة الأخيرة، ومنعه الوافدين من دخول البلدة القديمة والمسجد الأقصى، سبّبت خسائر اقتصادية تجاوزت نسبة 95%.
ويضيف بألم: “نحنُ لا نبكي على التجارة، إنّما على حال المسجد الأقصى المبارك، فهو حزين وكئيب، خالٍ من المصلّين والمرابطين، وهذا يسمح للمستوطنين بالعربدة داخل باحاته.. المشهد مؤلم جدًا”.
ويختم حديثه، مؤكّدًا على ضرورة دعمِ ثبات وصمود التّجار المقدسيين، وتكثيف الدعوات اليومية من أجل إعادة إعمار البلدة القديمة والمسجد الأقصى، وتوجيه البوصلة نحوهما.
المصدر: وفا