الأخبار

مهمة مستحيلة وضحكات هستيرية في حقول الزيتون

تأتي مواسم كثيرة وتذهب دون أن نلحظ أهمية وجود المرأة فيها، إلا موسم الزيتون تحديدًا؛ فهو الموسم الذي يعتمد على الأيادي العاملة النسائية اعتمادًا كبيرًا ومفصليًا، ومن الصعب إنجاز العمل في قطاف الزيتون في ظل غيابها، إن لم يكن ذلك مستحيلًا.

ولست أقول هذا الكلام مجاملةً أو محاباةً للعنصر النسائي، بل لأنني عرفته واختبرته منذ كنت طفلًا صغيرًا في مطلع ستينيات القرن الماضي، ثم من خلال التجربة العملية لاحقًا، عندما رحل الكبار ودارت عجلة الزمن، وعدتُ من الغربة وتوقفتُ عن العمل الوظيفي، لأتولى بنفسي مهمة قطاف الزيتون بدلًا عنهم.

ذكريات الطفولة في الحقول

كنت في طفولتي أرافق الأهل إلى حقول الزيتون عند حلول موسم القطاف. وكان والدي – رحمه الله – يكلّف خالتي حلّوة الأسعد، وأمي المربية، وأختي عائشة الأكبر سنًّا، ومن يستأجره من النساء، بجمع حبّ “الجُول” من أسفل أشجار الزيتون كخطوة استباقية، حتى لا يختلط الحب المصاب بآفة ذبابة الزيتون مع الحب السليم.

ومن بين النساء اللاتي كنّ يعملن معنا جارة تُدعى حلّوة الشراري، وكانت حين أقترب من النسوة للمشاركة في جمع الحب، تبدأ تغني لي من أغاني الزيتون الحماسية:

“عاونيني يا يدي تا مني أروح بلدي…”

كانت تلك الأغاني، كما أظن، ضرورية لتخفيف ألم الزحف في الحقول، ولتُعين النسوة على احتمال تلك المهمة الصعبة، إن لم تكن مستحيلة.

مهمة مستحيلة

أقول “مستحيلة” لأنها تتطلب الزحف المتواصل في وضع القرفصاء لجمع الحب، وهو ما يحتاج إلى أرجل قوية، وركبٍ أقوى، وظهرٍ متين.
وهذه المهمة مستحيلة على الرجال حتمًا؛ ففي الغالب يتجاهل الذكور هذه الطقوس إذا غابت المرأة عن الحقول، فيختلط الحابل بالنابل، وتكون النتيجة كارثية على مذاق الزيت، أو يُترك حبّ “الجُول” أسفل الأشجار دون الاستفادة منه في صناعة الصابون البلدي.

وكان والدي، حين يستأجر عمّالًا من منطقة الجنوب – الذين كانوا يزحفون أيام القطاف إلى مناطق الشمال للعمل في جني الثمار مقابل أجورٍ من الزيت – يحرص على تشغيل عائلات تضم نساء شابات وقويات البنية، قادرات على تحمّل أعباء الدور النسائي في موسم القطاف.

شراكة في كل التفاصيل

لم يكن دور المرأة يقتصر على جمع حب الجُول من أسفل الأشجار، بل كانت تشارك أيضًا في قطف الحب من الأغصان المنخفضة، بينما يتولى الرجال مهمة القطف من الأغصان المرتفعة، وتسلق الأشجار من الداخل باستخدام السلالم الثقيلة والخطرة.

أما المهمة الأخرى الشاقة التي يقتصر القيام بها على النساء، فهي جمع الحب من الأرض بعد الانتهاء من القطف، في عملٍ يشبه جمع حب الجُول الاستباقي، لكنه هذه المرة للحب السليم الذي تناثر خارج الفرش أثناء القطاف، وغالبًا ما يسقط بعيدًا عند استخدام العِصيّ.

ثم تقع على عاتق النساء مهمة تنظيف الحب من الأغصان والشوائب وتخليصه من ورق الزيتون، وهي مهمة كانت شاقة وضرورية، لأن طحن الحب في الماضي كان يتم في معاصر الحجارة القديمة – التي أصبحت اليوم تراثًا – وكان من المتعذر فصل الورق آليًا كما هو الحال في المعاصر الحديثة.

ضحكات لا تُنسى

ما زلت أذكر مشهدًا طريفًا كانت فيه أختي عائشة تساعد أخي حمد – أكبرنا سنًّا – في رفع كيس الحب (أبو حزّ أحمر) على ظهر الحمارة. لكن التعب في نهاية النهار كان قد بلغ منهما مبلغًا، فسقط الكيس على الأرض، وبدأت موجة من الضحك الهستيري التي لا تكاد تنتهي.
تتكرر المحاولة ويتكرر الضحك، حتى يتمكنا في النهاية من رفع الشوال وربطه بحبال “المِصّيص”.

المرأة… قلب موسم الزيتون

قد يظن البعض أن دور المرأة ينتهي مع غياب شمس أيام الزيتون، لكن الحقيقة مؤلمة؛ فعليها وحدها تقع مسؤولية إعداد الطعام، وجلب أواني الماء، وتجهيز السفرة في الحقول، وأحيانًا الطبخ والنفخ للقاطفين، إلى جانب رعاية الأسرة في البيت، والقيام بمهام الغسيل والتنظيف والتدريس.

ولم يتغير دور المرأة كثيرًا في عشرينيات هذا القرن عمّا كان عليه في الماضي، إلا في بعض الجوانب مثل تنظيف الحب والنقل، بفضل التطور الحضاري.

تجربة شخصية

لقد اختبرتُ مؤخرًا صعوبة المهام التي تقوم بها المرأة في موسم قطاف الزيتون وأهمية دورها الذي لا نكاد نقدّره إلا في غيابها، وذلك حين قررت زوجتي أم أحمد البقاء في المنزل لاستقبال ابننا أحمد القادم من دولة قطر لمعونتنا في القطاف.

وطبعًا لم تنم تلك الليلة انتظارًا له، بل قامت بإعداد طبخة المنسف الشعبية استقبالًا له. وما لبثت أن عادت إلى الحقل في اليوم التالي، ليتضح أن الكرة الأرضية لا تدور في غياب المرأة، ولا كوكب الزيتون كذلك، إذ لا يكون لموسم الزيتون رونقٌ ولا طعمٌ بدونها.

فلو غاب دور العنصر النسائي عن موسم الزيتون، لربما تسبب ذلك في انقراض حقول الزيتون نفسها.

كتب: خليل حمد

زر الذهاب إلى الأعلى
تلفزيون المدينة

مجانى
عرض