الأخبار

عندما يحترق حُلم العمر.. روند غزال تروي مأساة حرق منزلها في اجتياح حي الرمال بغزة

في خضم الخراب الذي يخلفه القصف، وفي فوضى المشهد الذي تتراكم فيه أحلام الناس تحت ركام البيوت، تنبثق حكاية روند غزال أم لخمسة أطفال، كقصة صمود إنساني في وجه أبشع الأزمات.

روند، التي أذابت أيامها في شغف بناء منزلٍ تحقق حلمها فيه، تجد نفسها اليوم مجبرة على مواجهة الخراب الذي جرف كل شيء، من آمالها إلى إنجازاتها، ليتركها مع ركام الذكريات وأحلام غير مكتملة.

تبدأ قصتها في الحي الذي اختارت أن تستقر فيه، حيث أحاطت نفسها بأمل جديد على الطابق الخامس من منزلٍ أنجزته بعرق وجهد سنوات، إلا أن ذلك الأمل سُرعان ما تبخر عندما اجتاحت الدبابات حي الرمال، وسرق العدوان من روند ليس فقط منزلها بل جزءًا من روحها. بعد أيام من الحصار والخوف، اكتشفت أن منزلها الجديد قد تحول إلى ركام، وسُرقت كل ذكرياتها وحلمها بأمل جديد.

2b5a3221-60f4-48f6-9a89-569e93cec326.jfif

“النار أكلت بيتنا”..

تستهل حديثها “غزال” “لوكالة سند”، “أنا صامدة في شمال غزة، في بيتي المتواجد في حي الرمال، ونزحت من بيتنا عندما أخرجونا اليهود إلى بيت “سلفتي” الموجود في دوار حيدر، قضينا أيامنا في غزة بشكل عادي، حتى دخل اليهود الشارع الذي كنا فيه، وأنا كان لدي بيت جديد في الطابق الخامس، هذا البيت أنا وزوجي عملناه بجهد كبير، واشتغلنا عليه لثلاث سنوات حتى بنيناه بالشكل الذي حلمنا به”.

وتضيف، “سكننا في البيت لمدة شهر فقط ولم نكمل فرحتنا به، حتى الآن لم أسدد أقساطه. في البداية، لم أبقَ في الطابق الخامس، بل نزلت إلى بيت حماتي في الطابق الثاني لأنها كانت عاجزة، وحماي كان كفيفًا، وقضينا فترة الحرب عندهم، ولم نكن نستطيع البقاء في الطوابق العليا. خلال فترة الحصار من اليهود، دخلوا الشارع، وكانوا موجودين على بابنا بالدبابات، كنا داخل البيت مع الأطفال بدون أي إضاءة أو صوت”.

ماذا شعرت عندما شاهدتِ بيتك وكل ممتلكاتك أكلتهم النيران؟ بعد تنهيدة تُجيبنا: “شعرت بالصدمة عندما حرقوا بيتي. كنت نازحة ولم أكن أعلم أن بيتي قد تم حرقه. كل من حولي كانوا يعلمون أنني بنيت هذا البيت بجهد كبير، وكانوا يحاولون إخفاء الحقيقة عني. عندما خرجت لأخذ حقيبتي بعد مفاوضات مع الجنود، كانت الحقيبة تحتوي على كل ممتلكاتي، من ذهب وأوراق هامة وحتى حصالات أولادي. كنت محافظة على أموالهم، كل طفل كان لديه حلم وأنا كنت أدعمهم”.

وتزيد “غزال” بنبرةٍ من الحسرة، “بعد الكثير من التوسلات للجندي، سمح لي بالصعود لإحضار الطعام للصغار. عندما وصلت إلى الشقة، كانت حقيبتي مفتوحة، وكانت الدار تبدو وكأنها بركان من الفوضى. كل شيء تم سرقته، حتى حصالات الأولاد. شعرت بفقدان السيطرة على نفسي من الصدمة”.

وتستطرد ضيفتنا: “كانت صدمة كبيرة بالنسبة لي. زعلت كثيرًا، ولم أكن أعرف ماذا أفعل. كنت أقول لنفسي، الحمد لله، أولادي بخير. الحمد لله، مثل غيري. لا أستطيع أن أكون أفضل من غيري، لكن الحمد لله رب العالمين. ماذا أقول عن نفسي؟ الذكريات الجميلة التي عشتها مع عائلتي، خاصة خالتي وعمي، تبقى معي. عشت معهم لسنوات عديدة، وتواجدت معهم كثيرًا. كانوا عاجزين، وكنت دائمًا أحاول أن أكون بجانبهم، الحمد لله”.

a9eb2560-da80-4fee-a14e-c23fff5d06f3.jfif

“العجز تحت تهديد السلاح”..

تتحدث “غزال” عن لحظات العجز التي شعرت بها أمام حماها وحماتها، قائلة: “كنا مضطرين لمغادرة منزلنا الجديد بعد أن دُمر على يد الاحتلال، لم يكن لدينا خيار سوى الرحيل، فقد كانت الضغوط العسكرية والتهديدات من الاحتلال تجبرنا على مغادرة كل ما لدينا، وكان الوضع يفرض علينا أن نترك كل شيء، ونواجه خيارًا مريرًا بين البقاء والموت أو الهروب في ظروف صعبة لا تُحتمل.”

وتُشير “غزال”، إلى أن حماها وحماتها كانوا عالقين في وضع لا يُحسدون عليه، فقد كانوا يعيشون في ظل قسوة الاحتلال، وكانت الضغوط العسكرية تؤدي إلى إجبارهم على ترك المنزل والهروب.

وتُعبر: “كنت أشعر بالعجز التام لأننا لم نكن قادرين على حماية أنفسنا أو مواجهة التهديدات التي كانت تحيط بنا. كان علينا أن نترك كل ما نملك تحت تهديد الموت. حاولنا قدر المستطاع، ولكن الواقع كان أقوى من أي جهد نبذله.”

وتتابع حديثها عن ألمها العميق من عدم قدرتها على حماية عائلتها وضمان سلامتهم في مواجهة القسوة التي فرضها الاحتلال، قائلة: “الضعف الذي شعرت به تحول إلى عبء نفسي ثقيل. كان من الصعب جدًّا أن أرى عائلتي تتحمل تبعات الإخلاء القسري، دون أن أستطيع تقديم أي حماية أو دعم حقيقي لهم. كانت كل لحظة تحمل في طياتها مشاعر الهزيمة أمام قوة الاحتلال، مما زاد من معاناتهم وعمّق إحساسي بالعجز”.

ماذا عن الليلة الأخيرة التي جمعتك بعائلة زوجك؟ تُجيبنا بألم شديد: “في آخر ليلة قضيتها معهم، كنت نائمة بجانب خالتي في نفس الغرفة، وكانت خالتي خائفة بشكل غير طبيعي، رغم أنها كانت مؤمنة تقية، وكانت معروفة بفضلها وصلاحها. لكنها كانت تشعر بخوف شديد، على الرغم من أنني أيضًا كنت أخاف كثيرًا من رؤية الاحتلال”.

وتتُابع “غزال”، “في تلك الليلة، بينما كنا محاصرين، كنت أقول لها: “خالتي، العمر واحد، والرب واحد، لماذا الخوف؟ لو دخلوا علينا، فنحن شهداء، والحمد لله”. كانت خالتي خائفة جدًا، ولم تنم طوال الليل. أما أنا، فقد نمت نومًا عميقًا، وكأن التعب قد أخذ مني، ولم أستيقظ إلا لرؤيتها وهي تتقلب وتئن، وكأنها تتألم من شيء”.

b09738a1-f27d-4b09-a95a-7e335bb39e23.jfif

التجربة الشخصية في تقديم العون والمبادرات..

تُردف “غزال”، “عندما عشت تجربة المعاناة بنفسي، أصبح من الطبيعي أن أتعامل مع الألم الذي يواجهه الآخرون، وكنت أشارك في العديد من المبادرات، منها تنظيم فعالية في مدرسة للأطفال شملت فريقًا من المهرجين وتوزيع الألعاب، وقمنا أيضًا بتوزيع مبالغ نقدية كبيرة على النازحين والمدارس، وكذلك على الأيتام الذين كانوا في حاجة ماسة”.

وتلفت إلى أن أحد المشاريع البارزة كان زيارة مستشفى معمداني حيث قدموا مبالغ للجرحى الأطفال ووزعوا ملابس الصلاة على النازحين في المستشفى المجاور”، مُشيرةً إلى أنها تعمل حاليًّا على مبادرة لتوزيع أدوات التنظيف، حيث تسعى لتحويل الألم إلى طاقة إيجابية تفيد المجتمع.

ماذا عن شعور الناس بما تقدمينه؟ تُعبر: “أكثر ما أثر فيّ هو رؤية الفرحة في عيون الناس، خاصة الأطفال، عندما كنت أقدم لهم الألعاب أو أي نوع من الاهتمام. كنت ألاحظ كيف يتجمع الأطفال حولي في المدرسة بمجرد دخولي، وهم يعرفون أنني جلبت لهم شيئًا”.

وتُكمل “غزال”، “في تلك الفترة، كنت أواجه صعوبات مالية كبيرة، وكنت أطلب من الله أن يساعدني كما كنت أساعد الآخرين، كان لكل مبادرة أطلقها أثر إيجابي ليس فقط على المستفيدين، ولكن أيضًا على نفسي. كنت أعطي كل ما أملك، وفي المقابل، كنت أجد الدعم الذي أحتاجه في الوقت نفسه”.

وتزيد، “بفضل الله، كانت كل مبادرة أشارك فيها تمنحني شعورًا عميقًا بالرضا، وتؤكد لي أن العطاء يرد لي بركةً في حياتي. كل يوم، كنت أجد نفسي أكثر قوة وسعادة لأنني كنت أعيش قيمة العطاء ومساعدة الآخرين في أوقات الحاجة”.

ea388d8b-8291-4c47-93c8-0f094f324cee.jfif

زر الذهاب إلى الأعلى
تلفزيون المدينة

مجانى
عرض