أقسى مشاعر الأمومة ممزوجة بغصّة وقهر، اكتئاب حمل ثنائي القطب، واشتياق لحضن طفلة خارج القضبان، تجتمع مختلجةً في صدر أنهار الديك (25 عامًا)، ابنة قرية كفر نعمة غربي مدينة رام الله، والأسيرة منذ مارس الماضي.
في رسالة هزّت قلوب الكثيرين، وأدمعت العيون واستثارت العواطف والإحساس، بعثت بها أنهار من داخل سجن “الدامون”، إلى عائلتها.. زوجها وطفلتها جوليا، تعبر عن اشتياقٍ عارم لهم، وعن قلقٍ حول صحتها وصحة جنين ستضعه خلال أيام، بعد أن دخلت شهرها التاسع وهي أسيرة.
“اشتقت لجوليا بشكل مش طبيعي… قلبي واجعني عليها ونفسي أحضنها وأضمها لقلبي… الوجع الي في قلبي لا يمكن أن يكتب في سطور”، بهذه الكلمات استهلت الرسالة، محاولةً وصف وجع أم بعيدةً عن ملاكها.
وأملًا برحمة إلهية، وحثًا لضمائر حية وشريفة ناشدت الديك في رسالتها، وشاركت خوفها أن تلد في عملية “قيصرية”، مكبّلة الأيدي في سريرٍ حديدي، وفي غرفة تفتقر لأدنى المقومات الإنسانية، تمسكها ممرضة حاقدة باشمئزاز، وتشتمها طبيبة بقرف.
وتطال مخاوفها أيامًا تلي الولادة، أيامًا تحتاج فيها إلى لمسة حنونة من والدتها وزوجها، ونظرة تطمئن جرحها، وأيادٍ تمتد لتحمل طفلها وتقاسمها مشقة الألم، لكن واقع السجن سيفرض طفولة مشوّهة قد تتدافع إلى جسدٍ غضٍ بلا ذنب، وسيحمّل أنهار ثقلًا آخر فوق ثقلها.
المخاض مرتين لا يكفي، فأنهار ستواجه مخاض ميلاد طفلها، وستشهد معه ميلادًا جديدًا لروحها، فتجربة قاسية كهذه لا بد وأن تترك في روحها ندبةً لا تُمحى، هو مخاض من نوع آخر.
ومنذ اللحظة الأولى لاعتقال الأسيرة الحامل، بدأ مسلسل معاناتها على يد سلطات الاحتلال، حيث تقيد رجليها، ويديها، بالسلاسل وتعصّب عينيها، وتُلقى في الزنازين لتخضع لأساليب تحقيق قاسية، تشمل الشبح، والضرب، والتخويف، والمنع من النوم، والحرمان من الطعام لفترات طويلة، دون مراعاة وضعها الصحي كونها حامل.
وجرت لبعض الأسيرات محاولات لإجهاضهن، كالأسيرة عبلة شفيق طه، التي كانت حاملًا في شهرها الثاني، وتعرضت لركلات المحققين على بطنها، بعد أن اعتدت عليها مجموعة من الإسرائيليات المحتجزات في ذات السجن، وذلك بتعليمات من المحققين؛ للضغط عليها والحصول منها على اعترافات، وذلك في مطلع شهر آب 1968م في سجن المسكوبية.
وبعد انتهاء فترة التحقيق، ونقل الأسيرة إلى غرف السجن، تنتقل إلى فصل آخر من المعاناة، فغرف الاعتقال تفتقر إلى الحد الأدنى من البيئة الصحية؛ فلا شمس، ولا تهوية، لا تغذية مناسبة، ولا عناية طبية للوالدة أو الجنين.
وعندما يأتي موعد الولادة، تقيد سلطات السجن رجلي الأسيرة ويديها بالسلاسل، وهي في حالة مخاض، لتنقل إلى المستشفى، وهناك تتفاقم معاناتها عندما يشد وثاقها إلى سرير ولادتها، دون السماح لزوجها وأفراد عائلتها بالحضور والوقوف إلى جانبها؛ ولا يفك وثاقها إلا لحظة ولادتها.
ولا تقتصر معاناة الأسيرة الحامل على مرحلة التحقيق، ولا تنتهي بانتهاء عملية الولادة؛ بل تمتد إلى ما بعد ذلك؛ حيث يعاد تقييدها بالسلاسل لتنقل وطفلها إلى سجنها، ليعامل طفلها كأسير يشارك والدته الجدران والقضبان والمعاناة، وليس كطفل مولود رضيع بحاجة إلى توفير مستلزمات خاصة من راحة وعناية صحية فائقة وغذاء وحليب وتطعيمات ضرورية وغيرها؛ وليحرم من أبسط حقوق الطفولة، ويتعرض لأقسى أنواع القهر والحرمان كأمه الأسيرة، لدرجة مصادرة حاجاته الخاصة وألعابه التي يأتي بها الصليب الأحمر.
ولا تنتهي قسوة السجان عند هذا الحد، بل تصل إلى التفريق بين الأم وطفلها عندما يبلغ سن السنتين، ليحرم الطفل من حضن والدته وحنانها، ويشعل نار الفراق في قلبها.