في نهايات القرن الثامن عشر، وقبل حوالي 120 عاماً تحديداً، تنبّهت المنظمة الصهيونية مبكراً لأهمية المال في تطبيق رؤيتها الاستعمارية على فلسطين وإنشاء وطن قومي لليهود، فمن دون المال تظل الخطط مجرد أحلام.
ولتحقيق هذه الرؤيا الاستعمارية أعلنت المنظمة الصهيونية عام 1901م عن إنشاء الصندوق القومي اليهودي، تطبيقاً لمقترح تقدّم به مدرس الرياضيات اليهودي “هيرمان شابيرا”.
وجاء هذا المقترح كوسيلة لجمع الأموال لشراء الأراضي في فلسطين وتوسيع الاستيطان اليهودي فيها.
عام 1907 بدأ الصندوق القومي عمله بشكل رسمي كشركة بريطانية، وتم تحديد العاصمة النمساوية “فِييَنَّا” مقر له، قبل أن ينتقل المقر عام 1914 إلى مدينة هاغ الهولندية.
وفي عام 1922 انتقل المقر بشكل رسمي إلى مدينة القدس، بعد أن أصبح له عدة فروع في مختلف أنحاء العالم.
محطات
استمر هذا الصندوق في وظيفته التي أُنشئ لأجلها خلال جميع المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، ابتداءً من فترة الحكم العثماني مروراً بالانتداب البريطاني وانتهاء بقيام دولة إسرائيل عام 1948 وما بعدها.
في العام 1939 أطلق الصندوق مشروعاً أطلق عليه “البرج والسور”، والذي تم بموجبه بناء 10 مدن استيطانية يهودية جديدة في فلسطين.
وكانت عمليات البناء تتم في ساعات الليل خوفاً من أن يتم إيقافها من قبل الانتداب البريطاني الذي أصدر قراراً بمنع بناء مجتمعات يهودية جديدة في تلك الفترة، وهو القرار الذي اعتبره كثير من المؤرخين بأنه كان شكلياً.
واستطاع الصندوق اليهودي حتى نهاية العام 1947 امتلاك أراض تبلغ مساحتها 933,000 دونم من أصل1,734,000 دونم كان يمتلكها اليهود في فلسطين آنذاك؛ ما يساوي 6.6% من مساحة فلسطين الكلية البالغة 26,305,000 دونمًا.
لم يقتصر دور الصندوق اليهودي على جمع التبرعات وشراء الأراضي الفلسطينية وحسب، بل ساهم أيضا في الترويج للصهيونية وإشراك عدد كبير من الأشخاص في تحقيق مشروعها، حتى في حال عدم رغبتهم بالهجرة إلى فلسطين.
توّسع صلاحيات الصندوق
في مطلع 1954 أعاد الكنيست “الإسرائيلي” صياغة مهام الصندوق، وعدّلها من شراء الأراضي إلى استصلاحها والمساعدة في استيعاب المهاجرين الجدد وتوفير فرص عمل لهم وتقديم الخدمات الصحية وتمويل التعليم في “إسرائيل” وخارجها.
وفي العام 1960، أُبرمت اتفاقية بين حكومة الاحتلال والصندوق اليهودي، سُلّمت بموجبها الأراضي التابعة للصندوق إلى سلطة أراضي “إسرائيل”، بحيث تم نقل إدارة الأراضي، التي كانت تحت سيطرته إلى جهة حكومية.
بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، كان للصندوق يد في استيطان مناطق عدة في الضفة الغربية وإنشاء مستوطنات تمتد من البحر الميت حتى البحر الأحمر.
وفي مطلع التسعينيات سيطر الصندوق على سهل الحولة شمال فلسطين المحتلة، وعمل على تسكين أكثر من مليون مستوطن روسي وأثيوبي وتشغيل عدد كبير منهم في تحويل الأراضي إلى غابات.
أوسلو.. تجميد مؤقت
بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو بين الحكومة “الإسرائيلية” ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 جرى تجميد أعمال الصندوق القومي اليهودي، في حين استمرت جهات إسرائيلية أخرى بذات المهمة كمجلس المستوطنات.
لكن في العام 2014 عاود الصندوق نشاطه بقوة، بعد ضخّ مبالغ هائلة في حساباته تجاوزت الـ 2 مليار و400 مليون شيكل من صهاينة وداعمين لـ” إسرائيل”، وبدعمٍ حكومي غير معلن.
كما افتتح الصندوق عدة مكاتب له حول العالم أبرزها في أستراليا، النمسا، الولايات المتحدة الأميركية، هولندا، السويد، فرنسا، البلقان، اسكوتلندا، جمهورية التشيك.
ساهم هذا التوسع في خلق شراكات دوليّة مع عدة شركات، كانت بمثابة ذراع خفية وواجهة لشراء الأراضي والعقارات الفلسطينية في الضفة الغربية ومدينة القدس وتمرريها لجهات وجمعيات يهودية.
الصندوق القومي وإسرائيل 2040
ومؤخراً، أعلن الصندوق القومي عن خطة “إعادة توطين دولة إسرائيل 2040″، والتي تهدف لترحيل البدو الفلسطينيين من صحراء النقب التي تشكل 60% من مساحة فلسطين التاريخية ومنطقة الجليل في الشمال، وإسكان مليون ونصف مستوطن مكانهم.
وأشار الصندوق إلى أنه يعمل على إنشاء 750 شركة في تلك المنطقة وجعلها مركزاً لصناعة وتعليم التكنولوجيا المتطورة، واستقطاب 150 ألف يهودي في العالم للهجرة إلى “إسرائيل” وتوجيههم إلى الجليل والنقب.
وفي حال طُبق هذا المشروع فستصبح النقب عاصمة “إسرائيل” لصناعة الأسلحة خلال الأعوام العشرين القادمة.
وتشكل هذا الخطة تهديداً لوجود الفلسطينيين البدو في النقب، الذين ما زالوا يواجهون محاولات اقتلاعهم على مدار 72 عاماً وأكثر.
الصندوق والاستيطان في الضفة
ووفقاً لحركة “السلام الآن” فإن الصندوق القومي سيطر ما بين الأعوام 1967-2019 على أكثر من 65 ألف دونمًا في الضفة الغربية.
ويبين موقع أوتشا، ازدياد تورط الصندوق في المشاريع الاستيطانية في الضفة وتمويلها بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حيث دفع الصندوق ما يقارب 88 مليون شيكل للاستيطان، وتكفل باتخاذ الإجراءات “القانونية” لإجبار الفلسطينيين على إخلاء بيوتهم.
ومن الضروري التأكيد أن عمليات شراء الصندوق القومي للأراضي الفلسطينية تحدث في الخفاء بسبب قلق القائمين على الصندوق من تأثير ذلك سلبياً على مكانته وقدرته على جمع التبرعات.
وغالباً ما تتم عمليات البيع بطرق غير قانونية كالاحتيال والتزوير؛ لأن الأراضي الفلسطينية الواسعة عادةً ما يملكها المئات وحتى الآلاف من الفلسطينيين ومن الصعب التصديق أن جميع المالكين وافقوا على بيعها إلى الصندوق.
الصندوق آخر الحلقات
وفي نهاية الأسبوع الماضي، كشفت حركة “السلام الان”، عن أن الصندوق القومي اليهودي بصدد الموافقة على تخصيص 100 مليون شيكل بغرض تسجيل آلاف الدونمات في الضفة والقدس الشرقية لصالح اليهود.
وأضافت: “التسجيل يعني الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية بغرض إقامة المستوطنات، أما في القدس الشرقية فإن هذا الأمر يعني مصادرة آلاف الدونمات والمنازل من الفلسطينيين الذين عاشوا فيها منذ عقود، لصالح مجموعات استيطانية يمينية”.
وذكرت الحركة أن حجم المبيعات السنوية للصندوق القومي اليهودي بلغ حوالي 2.3 مليار شيكل، تأتي غالبيتها من أموال دولة إسرائيل.
وتشير إلى أنه لا يجب السماح للصندوق القومي اليهودي بأن يصبح بنكاً يدعم الاستيطان.
وطالبت الحركة أحزاب اليسار ويمين الوسط في الحكومة “الإسرائيلية” باتخاذ إجراءات حاسمة ضد استخدام الملايين من الصندوق القومي اليهودي لتعميق عمل مشروع الاستيطان، ونزع الملكية عن المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقدس.
وللمفارقة الغريبة، فإن موقع الصندوق القومي اليهودي يضع عبارة “كل شيء بدأ بحلم” عند التعريف بتاريخيه، لكن هذا الحلم هو في الحقيقة مجرد كابوس لملايين الفلسطينيين الذين شردوا من أراضيهم، وتحولوا بفعل القمع الصهيوني للاجئين في العالم ونازحين في بلادهم.
المصدر: وكالة سند