بسريةٍ تامة، وبخط صغيرٍ ودقيق، وفي ورقة واحدة متراصة الحروف والكلمات، يدّون الأسير الفلسطيني أفكاره، ويلف هذه الورقة إلى أصغر حجم، ويجعلها أشبه بـ” كبسولة” دواء، يغطيها بقطعة بلاستيكية، لتصبح قابلة للبلع في طريقها إلى أمعاء أسير آخر على وشك التحرر لتهريبها خارج السجون.
يعرّف الأسرى الفلسطينيون داخل السجون مفهوم “الكبسولة” بأنها الطريقة الوحيدة لنقل أعمالهم الأدبية من داخل السجون إلى خارجها، قبل أن يستطيعوا الفرض على سجانيهم توفير كرّاسات ليكتبوا عليها ما يريدون، بعد سلسلة من الإضرابات التي خاضوها، ووضعوا هذا الأمر كأحد شروطهم.
وقد دفعت هذه الإجراءات المعقدة جهات ومؤسسات تعنى بالأسرى الفلسطينيين إلى إقامة معرض كتاب لعرض إنتاجات الأسرى الأدبية والسياسية والفكرية المختلفة، وقد استمر هذا المعرض مدة 3 أيام في رام الله وسط الضفة الغربية المحتلة.
تجميع القصاصات
يصف فارس محروم – شقيق الأسير سامر (51 عاماً) الذي أمضى 33 سنة داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي- أن الكتابة داخل السجن أمر صعب، وليس بالسهولة التي يتخيلها البعض؛ فشقيقه -المحكوم بالسجن المؤبد والذي تحرر في صفقة وفاء الأحرار” شاليط” عام 2011 وعاد واعتقل عام 2015، ليمضي بقية حكمه- كتب كتابين داخل الأسر، وكان مجرد تجميع فصولهما أمر صعب ومعقد.
يقول محروم لـ”الجزيرة نت” إن واقع الأسير الفلسطيني داخل سجون الاحتلال لا يمكنه من الكتابة، فالأمر أقرب لحد العبقرية في الحفاظ على ما يتم تأليفه؛ لأن الأسير يتعرض للتفتيش ومصادرة حاجياته بين فينة وأخرى، وبذلك يفقد ما يكتب، لذا كان عليه أن يحفظ دائما في دماغه ما كتب، ليعيد تدوينه مرة أخرى في حال المصادرة.
وألّف الأسير سامر محروم كتاب “دائرة الألم” الذي يتحدث عن الدائرة المغلقة لأسرى أمضوا أكثر من 25 عاما داخل السجون وعن أجواء حياتهم هناك، وقد أبرز في أحد أجزاء كتابه كيف تكون الكتابة معقدة، وخاصة حينما تغيب الأوراق والأقلام، ولا يبقى من أجل التدوين إلا ذاكرة الأسير وبعض القصاصات الورقية التي تحول لكبسولات ترسل مع أسير آخر عند تحرره.
وحسب محروم، يتم خلال الزيارات إخبار الأهل كيف يتم ترتيب ما قام الأسير بكتابته، وصولاً إلى الكتاب المكتمل، وبذلك يكون قد كسر حاجز الركود التي يعيشها داخل السجن التي أرادها المحتل، وانطلق بخياله وأمله فيما يكتب إلى العالم أجمع، وهو ما لا يريده سجانوه.
إصدارات أدبية متنوعة
يقول عبد الفتاح دولة -الأسير المحرر ومسؤول لجنة التعبئة الفكرية في مفوضية التعبئة والتنظيم التابعة لحركة فتح وأحد القائمين على معرض كتاب “أدب السجون”- إن المعاناة التي يعيشها الأسرى دفعتهم لعرض إنتاجات الحركة الأسيرة الأدبية والفكرية والسياسية وغيرها في معرض “أدب السجون”، وهي من تأليف أسرى وأسرى محررين.
وجمع المعرض قرابة 100 عنوان، تم جلبها من مختلف المؤسسات المعنية بالأسرى، من قرابة 360 عملاً أدبياً وكتباً ألفها الأسرى داخل سجون الاحتلال وخارجها، ومنها ما كان شعراً ومسرحاً أو مجموعة من الأغاني.
ويصف دولة في حديثه لـ”الجزيرة نت” أهمية المعرض في أنه يوضح الظروف الصعبة، وإجراءات القمع والتنكيل وصهر الوعي وإفراغ الأسير محتواه التفاعلي والنضالي، وكيف يتغلب على ذلك ويصبح إنساناً فاعلاً ومؤثراً على الصعيد الأدبي والسياسي والفكري، ونجح أن ينقل تجربته داخل السجن، كما في كتاب “1000 يوم في زنزانة العزل الانفرادي”، للأسير مروان البرغوثي.
وأظهر الأسرى أنهم ليسوا حالة إنسانية، ولا أرقاماً فقط، وإنما هم حالة إنتاجية وفكرية، وأصحاب مشروع مستمر حتى لو تم أسر أجسادهم.
وساعدت دار طباق للنشر والتوزيع -التي كانت من بين المبادرين لتنظيم المعرض- في تسلم أعمال الأسرى وتجميعها وتصميمها وطباعتها وتوزيعها أيضا بالمجان.
تقصير في الإقبال
ويصف ثائر شريتح -المتحدث باسم هيئة شؤون الأسرى والمحررين- الإنتاجات الأدبية داخل السجون بأنها تحدٍ لقوانين إدارة السجون التي تهدف لقتل المحتوى الفكري لدى الأسرى، وبأنها إبداع في إنتاج هذه المحتويات الأدبية في ظروف قد تكون بسيطة أو صغيرة، ولكنها تأخذ وقتاً وجهدا كبيرين، ولذلك يجب أن يكون هذا الإنتاج مقدّرا، لأنه غير عادي وفي ظروف صعبة ومعقدة.
ويرى شريتح في حديث لـ”الجزيرة نت” أنه مع الأسف، هناك نوع من التقصير في الإقبال على المعرض، وخاصة من القطاعات الأكاديمية، لذلك كان لا بد من وجود مراجعة سريعة للتفاعل أكثر مع تجارب الأسرى غير العادية، ووضع خطط لتحفيزهم، لأن إنتاجاتهم الأدبية تعتبر من مقدرات الشعب الفلسطيني، وإنجازاً مهما في نضاله.
كل ذلك -حسب شريتح- دفع هيئة شؤون الأسرى والمحررين ووزارة الثقافة الفلسطينية لتشكيل لجنة خاصة لدراسة الانتاجات الأدبية للأسرى وتقدير مدى صلاحيتها، وتعديلها إن أمكن حتى يصل الإنتاج إلى الحد الأدنى، من أجل الحصول على متطلبات النشر، ويلي ذلك الطباعة والتوزيع بشكل مجاني لتشجيع الأسرى على الكتابة والاستمرار في تدوين تجاربهم المختلفة.
نقلًا عن: الجزيرة نت