استعدادًا للموت.. أطفال غزة يخطون أسماءهم على أجسادهم الصغيرة
كانت أطرافهم أصغرَ من أنّ تتّسع لأسمائهم، وأنّ تُلطخ بالدّماء المُتناثرة في كلّ أنحاءِ القطاع المنكوب، كانت أحلامهم لا تزالُ تشقّ طريقها نحو النور والحياة؛ لكنّ القصف النازل من سماء عدوانٍ الاحتلال، أعدمَ هذه الأجساد الصغيرة، وسرَق منها الطُمأنينة، وعلّمها معنى “التضحية” في أوانٍ مُبكر.
ففي الوقت الذي يتعلّم فيه أطفال العالم كتابةَ حروف اللّغة لصقلِ مهاراتهم، يتعلّم أطفال قطاع غزّة ذلك كي يخطّوا أسمائهم على أجسادهم؛ حتى يسهل التعرّف عليهم بعد ارتقائهم، ولا ينتهي مصيرَهم بالدفنِ بمقابرٍ جماعية كحال “مجهولي الهوية”.
ومنذ السابع من أكتوبر الجاري، تتعرّض غزّة لإبادةٍ جماعية وعدوانٍ ظالم يستهدفُ المدنيين والأبرياء أينما كانوا، دون إنذارٍ مُسبق؛ ما أوقع آلاف الشهداء، كثير منهم باتوا أشلاء، شوّهت أجسادهم، ووريت جثامينهم الثرى دون أن يتعرّف عليهم أحد.
“لعبةٌ مع الموت”..
يوثّق مقطعٌ مصوّر على وسائل التواصل الاجتماعي، كيف يتسابق أطفال غزّة لكتابةِ أسمائهم على أطرافهم النحيلة، في لعبةٍ مروّعةٍ مع الموت، تحمي جثامينهم وبقاياها من الضَياع في الزحامِ تحتِ رُكام المَنازل.
وحدهم من يعلمون بماذا يفكّرون في هذه اللحظات، رُبما طفولتهم التي سُلبت منهم مُبكرًا بفعلِ الحروب المُتتالية، دفعتهم للإحساس بقلوب أمّهاتهم، ولوعتهنّ وهنّ يصفنَ ملامحهم الشخصية، ويهرعنَ للبحث عن جثامينهم وسط الأنقاض أو على أسرة المشافي.
أو ربما يعتقدون أنها إحدى الحصص المدرسية التي حُرموا منها جرّاء القصف المتواصل، لكنّها هذه المرّة بحضرةِ طلبةٍ جُدد في مراكز الإيواء، ودون كُرّاسةٍ ورقية؛ فكلّ ما بحوزتهم قلمُ حبرٍ وأجساد صغيرة.
“غزّة تنزف أطفالها”..
وبين جثامين آلاف الشهداء المتراكمة هنا وهناك، تلفتُ نظرك جفونُ أطفالٍ غمضت للأبد، وبعد أن تُحدّق بها جيدًا،وتنقلُ نظرك نحو أجزائهم السُفلية، تراها مرصّعة بالحبر، وبأسماءٍ ثلاثية بالكاد تتّسع.
ويوثّق الصحفي حسن اصليح، بعدسته هذه المشاهد التي تنفطر لها القلوب، وهو يُردّد: “في غزّة، يتم كتابة الأسماء على الأقدام قبل أنّ يرتقوا شهداء؛ حتى يسهل التعرّف عليهم، فهناك الكثير من الأطفال مجهولي الهوية.. لا حول ولا قوّة إلا بالله!”.
“قلادةٌ ورقية”..
“أسماؤنا أشلاؤنا.. لا لا مفرّ”.. كأنّ الكلمات التي قالها الراحل عن وطنه محمود درويش باتت واقعًا في قطاع غزّة، فلم تقتصر كتابة الأسماء على فئة الأطفال فقط، فهذه أمٌّ علّقت حول عُنقها قلادةٌ ورقية، نقشت عليها اسمها الثلاثي.
وفي مشاهدٍ تعكسُ كيف يستعد الأهالي “للموت قبل الموت”، تُردّد الأمّ بعد أن فقدت فلذة كبدها: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. والدها علّق لنا أسمائنا.. قال لنا في حال توفيتم، ستكون كل أسمائكم معلّقة على رِقابكم؛حتى يتعرّفوا عليكم”.
“لا أريد أن أموت”..
وبعد انتشار هذه الصور التي تعكسُ نفسية أطفال القطاع، وخوفهم من مصير “مجهول الهوية”، خطّ أبناء الشهيد بلال صالح من قرية الساوية جنوب مدينة نابلس أسمائهم على أطرافهم، والتقطوا صورًا لهم مُعلنين تضامنهم.
وفي اليوم التالي، ارتقى والدهم شهيدًا برصاص مستوطنٍ غادر خلال قطفه ثمار الزيتون مع أبنائه؛ ليُشاركوا أطفال غزّة اليُتم المُبكر، ومرارة الفقد.
أما الصحفي السوري قتيبة ياسين، أطلق حملةً تضامنية على صفحته “الفيسبوك”، كتب فيها: “أطفال غزّة شاهدوا أكفان لأطفالٍ آخرين مكتوب عليهم “مجهول الهوية”، (..)، أحببتُ أنّ أكتب اسمي على ذراعي وأنشرها مرفقةً بعبارة “لا أُريدُ أن أموت مجهول الهوية”.
وأضاف “ياسين”: “أدعوا الجميع أن يفعل ذلك، وينشرها في التعليقات أو على حسابه الخاص، ويكتب للعالم بمختلفِ اللّغات أن هناك أطفالًا في غزّة لا يريدون أن يموتوا.. أرجوكم أوقفوا من يقتلهم”.
ومع دخول العدوان على قطاع غزّة يومه الـ 25،أعلنت وزارة الصحة في ارتقاء 8306 شهيدًا، بينهم 3457 طفلًا، فيما تلقّت”الصحة” 1950 بلًاغا عن مفقودين، بينهم 1050 طفلًا لا زالوا تحت الأنقاض، فهذا هو “بنك أهداف الاحتلال”.
المصدر: سند